أبواب

«مضايا» تأكل أوراق الشجر

علي العامري

لسنا أمام فيلم سينمائي طويل عن مجاعة تنهش 40 ألف إنسان في بلدة صغيرة اسمها مضايا. لسنا أمام فيلم يختبر مخرجه درجة تحمل المشاهدين لصور بشر كأنهم خارجون من قبور، ليعودوا إليها معفّرين بالألم والموت والنسيان العالمي. لسنا أمام مجاعة ناتجة عن فيضان أو إعصار أو زلزال أو شحّ بالموارد الطبيعية أو وباء يجتاح الأخضر واليابس. لسنا أمام رواية أدبية يقودها خيال كاتب يبتكر سيرة خيالية لمكان اسمه مضايا. لسنا أمام أرض متخيلة في أسطورة، أو مكان يقضم الظلم شمسه اليتيمة. لسنا أمام طين يعبث به خيال مهووس بتشكيل موت غرائبي. لسنا أمام لوحة سريالية لسلفادور دالي، إذ يذوب الزمن وتذوي الأجساد ويتلوى الضوء في ممره الأخير. ولسنا أمام «متحف» عن تاريخ التجويع. ولسنا أمام مشاهد خارجة من «تحولات أوفيد» أو «سعير المعري» أو «جحيم دانتي».

• يحوم الموت في مضايا يومياً، ويقطف أرواح الجوعى، من أطفال لم يجدوا حليباً، ونساء لم يجدن خبزاً، ومسنين لم يجدوا جرعة دواء، وشباب يذوّب التجويع أجسادهم.

لسنا أمام أرض خيالية، وبشر خياليين، وأسلاك خيالية، وألغام خيالية، بل نحن أمام «فاجعة كبرى»، تشمل مثلث التهجير القسري والفرز والتجويع، الذي يضم الزبداني وبلودان ومضايا في ريف دمشق. نحن أمام جريمة حرب مكتملة الأركان، يرفع مرتكبوها شعاراً هو «الجوع أو الركوع»، وفي الوقت نفسه يتشدقون بادعاءاتهم المفضوحة بأنهم «حماة» فلسطين و«ترس الممانعة» و«مناصرو الفقراء».

ومع أنهم «خدعوا» البعض، بعض الوقت، إلا أن حقيقتهم سرعان ما تكشفت، وسقطت «ورقة الممانعة الزائفة»، وسقطوا سقوطاً مريعاً في وحل أكاذيبهم، وفي قاع التاريخ. وسقط الحجاب أمام أعين «المخدوعين» في سنوات مضت، ليروا «مرتكبي الحصار» يقتلون ويفرضون التجويع سلاحاً ضد بلدة كاملة يقطنها 40 ألف إنسان من أهالي مضايا والمهجرين من محيطها.

يحوم الموت في مضايا يومياً، ويقطف أرواح الجوعى، من أطفال لم يجدوا حليباً، ونساء لم يجدن خبزاً، ومسنين لم يجدوا جرعة دواء، وشباب يذوّب التجويع أجسادهم.

مضايا تأكل ورق الشجر، ومع ازدياد موجات البرد وسقوط الثلوج، صار العثور على أوراق الأشجار متعذراً، وأصبح الأهالي يبحثون عن أي شيء يسعفهم للبقاء أحياء، حتى أن عائلات تعرضت للتسمم بعد تناولها أوراق شجر الزيتون، ووردت شهادات عبر وسائل التواصل الإجتماعي، تكشف بالصور ومشاهد الفيديو «تراجيديا مضايا» وتحويل البلدة إلى قبر كبير.

مرتكبو الحصار على بلدة مضايا، ضربوها بالتجويع، وضربوا حولها سوراً معدنياً، وزرعوا ألغاماً فردية حولها، ليخنقوها بأكملها. وغابت أي ذرة للإنسانية عن قلوبهم المقدودة من معدن بارد. وكان طبيب سوري روى في شهادة له أن المحاصرين في مضايا منذ شهر يوليو من العام الماضي، أصبحوا يغلون ورق العنب المصفر مرتين ويأكلونه.

مضايا تموت يومياً، والمشاهد القليلة التي وصلت إلينا صادمة ومروعة، فالأطفال يذوون مثل ورق الشجر في خريف مبكر، ضلوعهم تبرز من صدورهم، كما لو أنها مصوّرة بالأشعة، وبطونهم تلتصق بظهورهم، كما لو أنهم بلا أحشاء، وصرختهم متجمدة، كأنها منحوتة ضد المحو، وعيونهم جاحظة تدين الضمير المستتر، بينما الحجر يدمع في مضايا.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر