أبواب

استعادة المأساة

يوسف ضمرة

الذين يعيشون الحدث بشكل حقيقي، يُفاجأون عندما يقرأونه روائياً، أما الآخرون فيساعدهم خيالهم على رسم صورة فنية للحدث المروي، ذاك الذي تحكي عنه وسائل الإعلام، وبعض من عاصروه ممن تبقى على قيد الحياة.

وعلى الرغم من قدرة الروائيين أحياناً على استعادة الحدث نابضاً بقوة، إلا أن تأثيره في النفس يظل تأثيراً فنياً في المقام الأول.

رغم قدرة الروائيين على استعادة الحدث نابضاً بقوة، إلا أن تأثيره في النفس يظل فنياً في المقام الأول.

في قلب المأساة الحقيقية، لا مجال للتأويل، ولا مجال للتعامل مع الحدث كمثال فني.

ماذا يفعل بنا سرد أحداث إبادة الأرمن أو الغجر؟ من الطبيعي أن تتأثر النفس البشرية أمام هذا السرد، لكن أيضاً من الطبيعي أن يكون القفز عن الحدث سريعاً وبلا ندوب سريعة، وغالباً بلا ندوب على الإطلاق، وهو أمر يختلف عن رؤيتنا لبعض الوقائع ومعايشتها، حتى لو كان الضحية شخصاً واحداً، فما من أحد شاهد حدث استشهاد محمد الدرة الفلسطيني وخرج من دون ندبة نازفة.

أسوق هذا الكلام لكي أعيد السؤال الذي يطوق الكتاب والأدباء في أيامنا، وهو: ماذا نكتب أمام ما نعيش من أحداث حقيقية ووقائع دامغة؟ أي، كيف تُروى المأساة التي تُعاش؟

من السهل علينا قراءة مآسي الإغريق ومآسي شكسبير ومآسي الحروب القديمة، ومن السهل أيضاً أن نتعامل معها بوصفها أعمالاً فنية عظيمة، نجهد كي نعثر على تأويل ملائم أكثر من سواه. أما هنا، في قلب المأساة الحقيقية، فلا مجال للتأويل، ولا مجال للتعامل مع الحدث كمثال فني.

أصل هكذا إلى الفرق بين الحقيقي والمتخيل، من خلال المأساة العربية الفلسطينية التي تجري أحداثها من دون توقف منذ قرن على وجه التقريب. صحيح أن هنالك تصعيداً في لهجة المأساة في بعض فصولها، وخفوتاً في إيقاع بعض الفصول الأخرى، إلا أن البنيان كله يشكل بنية مأساة مستمرة ومتواصلة من دون توقف، ومن دون تبديل في الأبطال.

لم يكن ممكناً أن ننظر إلى هكتور أو آخيل أو أوديسيوس أو آغاممنون تلك النظرة الفنية نفسها لو كنا نعيش أحداث حرب طروادة ومأساتها، أما وقد مضت آلاف السنوات عليها، فنحن نمتلك من الترف ما يجعلنا نجمع الأدلة والوقائع لنفي وقوع المأساة تاريخياً، أو لإثبات وقوعها، ناهيك عن دراستها فنياً ولغوياً وتقنية أدبية.

الطفل أحمد مناصرة، الذي تركه جنود الاحتلال ينزف من دون إسعاف، ثم قاموا باعتقاله، أخضعوه للتحقيق كما يتم إخضاع جنرال في جيش العدو، لقد رأينا ذلك كله لحظة بلحظة، فماذا بقي لنا ككتاب لندونه عن هذا الحدث وهذا الطفل؟ أو كيف يمكن استعادة هذه المشاهد أدبياً، وتكون مفاجئة في الوقت نفسه لمن شاهدها؟

يقول البعض إن الحقيقة أقوى من الفن، ولست أعرف حقاً مدى صحة مثل هذا القول! ربما يكون مصيباً من ناحية، وليس مصيباً من ناحية أخرى، وهنا تحديداً، يبرز دور الخيال البشري في استعادة المشهد والصورة والحدث والمأساة والواقعة، فمجموعات الفلسطينيين التي عبرت الصحراء إلى الكويت عقب النكبة، كانت كثيرة ويومية، لكن واحدة فقط من هذه المجموعات هي ما يجري الحديث عنها، وهي مجموعة غسان كنفاني «رجال في الشمس».

وبإيجاز نقول إن الارتباك والحيرة أمران طبيعيان للكاتب، أمام بعض الأحداث والوقائع، حيث يجد نفسه عاجزاً عن استعادة الواقعة، بحرارتها التي يعرفها جيداً، وربما احتاج الأمر إلى مساعدة الذاكرة والزمن، لكي يتمكن الكاتب من إعادة تشكيل اللوحة الراسخة في أعماقه، تشكيلاً يمثل ولادة جديدة للوحة بأثر قوي كالحقيقة، أو ربما أكثر!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر