أبواب

مجانين الأدب*

يوسف ضمرة

لا يغرينا الأدب العربي بالتوقف عند الجنون كصفة من صفات شخوصه، حتى وإن بدت هنالك بعض النماذج جاذبة، كبعض شخصيات نجيب محفوظ. وإذا ما أخذنا بتعريف هيغل للجنون، ووصفه له بأنه العمى والحياد عن جادة الصواب ـ التعريف بحاجة إلى التأمل ـ فإننا يمكن أن نصف شخصية مثل «سي السيد» بالانفصام، وذلك لأنه يفعل ما يفعله عن قناعة تامة، وليس تحت تأثير أي انفعال أو مؤثر خارجي. كما إن مقولة فقدان الحب التي جاء بها كثير من نقاد الغرب، وأثرها في التوازن النفسي، تعد مكوناً أساسياً عند «سي السيد». لكن الأدب الغربي يزخر بهذه النماذج التي تنتمي للجنون أو العته أو الحماقة. وربما تشكل شخصيات شكسبير وديستويفسكي نماذج غنية لدراسة ظاهرة الجنون في الأدب، إضافة إلى شخصيات شهيرة مثل دون كيخوته والجندي الطيب «شفيك».

«هاملت» نموذج يمكننا التوقف عنده مطولاً لبحث ظاهرة الجنون في الأدب.

الجنون لا يتحدث عن نفسه، كما يقولميشال فوكو، بينما نحن الأصحاء من نتحدث عنه.

لقد اختلف النقاد ـ ومازالوا ـ حتى اليوم في تفسير حالة «هاملت»، فمنهم من وصفها بالجنون، ومنهم من وصفها بادعاء الجنون، ولكل حجته ومبرراته. لكنهم ربما كانوا أقل اختلافاً في توصيف «الملك لير» الذي بدت صفة الجنون ملائمة تماماً له.

بالنسبة لـ«هاملت»، فإن المشكلة تكمن ـ كما يرى البعض ـ في التعارض بين «الواجب» الاجتماعي الملقى على كاهل هاملت، ممثلاً في ضرورة الأخذ بالثأر من عمه وأمه، وبين صراعه الداخلي مع نفسه في السياق نفسه. إنه يقع بين حجري الرحى؛ فمن جهة كان عليه أن يقتل عمه وأمه كواجب اجتماعي أخلاقي في المرحلة التي ينتمي إليها، ومن جهة أخرى هو يتردد في تنفيذ هذا «الواجب». وعليه قال بعضهم إنه ادعى الجنون لكي ينفذ «الواجب» من دون أن يصيب نفسه. ولكن هذا ليس كافياً بالطبع، حيث كان يمكنه القيام بالواجب من دون ادعاء الجنون، ومن دون أن يحاسبه أحد. لكن بعض النقاد ذهب إلى أن جنون أوليفيا حبيبته، شكل عبئاً إضافياً على صراع الأفكار الداخلية.

وأياً كانت التأويلات في حال كحال «هاملت»، فإننا أمام نموذج يمكننا التوقف عنده مطولاً لبحث ظاهرة الجنون في الأدب. وكذلك الحال مع شخصية «دون كيخوته» والجندي الطيب «شفيك».

فاغتيال ولي عهد النمسا الذي جرى في سراييفو، لا يحول بين «شفيك» وبين إمكانية اعترافه بالجريمة، حتى وإن كان لحظتها موجوداً في براغ. إنه نموذج الفرد الذي ينجح في ادعاء الحماقة أو الجنون، للإفلات من عواقب قد تكون وخيمة عليه، حيث جرى اتهامه بشتم الإمبراطور. لكننا في أحيان أخرى لا نجد مثل هذا المبرر، الأمر الذي يجعلنا نحار في تفكيك شخصية كهذه.

المشكلة الكبيرة التي تواجه الباحثين، تكمن في أن الجنون لا يتحدث عن نفسه، كما يقول ميشال فوكو، بينما نحن الأصحاء من نتحدث عنه. أي إن هنالك نوعاً من إقصاء الجنون وعزله، ووضعه أمامنا كي نقوم نحن بتشريحه وتفكيكه وإعادة تركيبه من جديد.

فالشخصيات «الإشكالية» التي تقترب من الجنون بحسب توصيف هيغل، لا تتحدث عن نفسها، بل تتركنا نحن من يتحدث عنها. فلا يخبرنا بطل كافكا مثلاً لماذا كان عليه أن يذهب لاحقاً وحيداً إلى المحكمة، ويبدو أن علينا نحن أن نعرف ذلك، تماماً كما تحدثنا عن هاملت من قبل.

* آراء النقاد وتعريفاتهم مأخوذة من مجلة عالم الفكر/‏ العدد الأول/‏ المجلد الأول/‏ 1987.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر