أبواب

عن الكتابة وإشكالياتها

خليل قنديل

تماماً مثلما يحدث في قحط الفصول، كذلك يحدث أن تصاب الكتابة بالبخل والقحط، ذلك أنه من الممكن أن تصاب الكتابة بالعماء وفقدان البصيرة، وأن تذهب الجمل في «الرجرجة» وعدم الوضوح والثبات، وأن تصبح المعاني قصيرة القامة ومبتورة، وألا تؤدي المراد، وهي الجمل ذاتها التي كانت في المساحة ذاتها، تطل متكاثرة وملحاحة وحتى راقصة!

فما ينطبق على مناحي الكتابة ينطبق على مناحي حياتية كثيرة، تستدعي بالفعل التوقف والتأمل، بسبب الاشتباك والتشابه في مناحٍ أخرى تقع في المساحة الكتابية ذاتها. فالذي نكتبه ونقوله، ونحن نعتقد أننا نقوله لأول مرة، ربما نكون قد كتبناه للمرة الألف أو أكثر!

«الذي نكتبه ونقوله، ونحن نعتقد أننا نقوله لأول مرة، ربما نكون قد كتبناه للمرة الألف أو أكثر!».

«الكتابة حينما تحقق وجودها المرئي، تتحول إلى مخلوق سحري، يقبل سحر التشكل وغرابة التكوين».

 ففي الوقت الذي تتكاثر فيه المفردات الكتابية، بنوع من الخصوبة ولذاذة التشكل، فإنه من الممكن أن تقع الكتابة في فخ القطيعة وانقطاع البث ويُتْم التواصل، وهذا بالطبع ما يخشاه الكاتب، ويظل يحاذر الوقوع فيه، فالكتابة التي ترمي بحبالها على الغارب هي كتابة مدربة على الاستدعاء والحضور وسرعة الاستنفار الحبري، وهي بعيدة كل البعد عن الضعف والوهن وارتخاء الأعضاء.

لكن الكتابة التي تبدو فرحة بحضورها الحبري قد «تسوق الدلال» علينا أحياناً، فتبدو عصيّة على التطويع أو الصياغة، فتبدو كطريق وعر مملوء بالحصى والعثرات، وهي هاهنا يصعب تطويعها واقتياد حروفها، يحدث هذا إلى الدرجة التي يشعر فيها الكاتب بانغلاق الأفق الحبري أمامه.

لكن الكتابة لا تصل، على الأغلب، إلى هذا المستوى من الاحتجاب والقطيعة، بل تظل تراوغ في الوصل والاتصال، حتى تعطي نفسها بشكل كامل.

والكتابة حينما ترهق من فكرة الفشل في عدم الاكتمال والتشكل، تقبل بفكرة التأجيل على أمل أن تترك على أن نعاود العلاقة معها في أيام قادمة، حيث تعود لاحقاً كي تقدم نفسها بطازجية عجيبة وبفنية خلاقة.

والكتابة حينما تحقق وجودها المرئي، فإنها تتحول إلى مخلوق سحري، يقبل سحر التشكل وغرابة التكوين، ويصبح كائناً رهن التشكل والتكوين الطارئ!

وللكتابة طعمها الحبري الخاص، بمعنى أن كل كتابة لها خصوصية الحبر الذي تكتب به، فهناك الحبر الشخصي الذي يقابله الحبر العام أو الرسمي، وهناك الحبر الخداج الطري المتشكل للتو، وهناك الحبر العدواني المعبأ بالنيات والدسائس، وهناك أيضاً الحبر الخبيث والملغم، وهناك الحبر الذي يسيح على الورق، فيرتسم كسيول قد تفيض لاحقاً بالكره والحقد والحروب الخاسرة سلفاً!

إنها الكتابة التي ينام على وقعها العالم، ويستيقظ على همسها كل صباح، وهي اللغم المصمت الذي نقبض عليه ونتحسس فتيله وصاعقه القابل للانفجار عند كل صباح، متناسين ملمسه البلاستيكي البارد، الذي يبشرنا في كل صباح بتوقع حدوث الكارثة، واستجابة الصواريخ العابرة للقارات لضغط الإصبع على نابضها، أو لرقص القنابل الذرية والنووية لضغط الإصبع البشري على نوابضها.

إنها الكتابة المصمتة التي تستقر بحبرها المصمت فوق الأوراق، وهي تهدد صباحاتنا ومساءاتنا بالكوارث المدمرة، وكان الله بالعون!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر