كل جمعة
«لبيكَ يا حُسين»!
هذه ليست حرباً بينَ بني هاشم، وبني أمية، وكلُّ همجي «داعشي» هو أسوأُ وأشدُّ إجراماً من عبدالرحمن بن ملجم، ومن شمَّر بن ذي الجوشن. هذه حربُ إيران، بحثاً عن إيوان كسرى في العراق، وليس من أجل رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشميّ القرشيّ العربي. فعلامَ يرفعُ الشيعةُ العربُ رايةَ الخميني السوداء في معركة تحرير الأنبار، ويهتفون: «لبيكَ يا حُسين».
«لبيك يا حسين» من أجل ماذا؟ كلُّ عراقيٍّ هو الحسين، وكلُّ بلاده كربلاء، من حداءِ الكرد في عين العرب، إلى صحراء الأنبار. لا تبحثوا عن رأس الحسين. يعرفُ كلُّ طفلٍ عراقي، وكل فلاّح، أين يكون. |
هذه ليست «النهروان» ولا «الجمل» ولا «صفّين». لا تأبهوا بحسن نصرالله، إنه رجلٌ يرقدُ في المراقد، ويحاربُ لأجل الرفات، ولديه سبّابةٌ، يرفعها الوليّ الفقيهُ من قُمْ، كما يشاء، وليس على قناة «المنار» إلا أنْ تقرّبَ الصورة، وترفعَ الصوت.
لم يجد الحشدُ الإيرانيُّ في العراق العظيم، بدجلته ونخله وبابله، وببكائه المُرّ، عنواناً لائقاً لمواجهة إرهاب «داعش» سوى «لبيك يا حسين». لقد مات يزيد بن معاوية في 683م. المغزى يكمنُ في المعنى، وفيهما يكمنُ التاريخُ، ولا أحدَ يبحثُ عن رأس الحسين. هذه المرة، فقط، دون كل السوابق والحرائق، يتصافحُ مقتدى الصدر، وأبوبكر البغدادي، ويطلبان رأس العراق في الرمادي، وليس في كربلاء. هذه شهوة الدمِ إلى دمٍ، يسهرُ عند رأسِ أمةٍ مريضة، لا تشفى ولا تمدّ يدها إلى الدواء. شهوة الثأر، في ذلك الصحن البارد الذي يُؤكلُ بيمينٍ فارسيةٍ، تكرهُ العرب، ولا تريدُ للحروب أن تكفّ عن ثاراتها، لا تريدُ حتى للمصاحف أنْ تُرفعَ على أسنّةِ الرماح.
«لبيك يا حسين» من أجل ماذا؟ كلُّ عراقيٍّ هو الحسين، وكلُّ بلاده كربلاء، من حداءِ الكرد في عين العرب، إلى صحراء الأنبار. لا تبحثوا عن رأس الحسين. يعرفُ كلُّ طفلٍ عراقي، وكل فلاّح، أين يكون. إنه هناك في البصرة. الرأس ذاته مدفونٌ في أيّ بغداد، وأيّ نجف، وأي فلوجة. مثل رأس نبوخذ نصّر، أو رأس هارون الرشيد، أو حتى عقيل علي، الذي عاشَ شاعراً وخبّازاً، ومات في غرفة صغيرة في شارع الرشيد. سألته في عام 1996، عن شيعة العراق وسنّته وكرده، فقال: أنا لا أعرفُ في هذه البلاد سوى المجاز والعجين والخبز اليابس.
مات عقيل علي، مثل «طائرٍ آخر يتوارى». عاش «القائد الضرورة» طويلاً في الأساطير، ثم بصق كذبته الأخيرة، وترك العراق للمنادب والمراثي والعمائم. زرعَ ألف كربلاء، وترك السقاية لأبي مصعب الزرقاوي، ونورالدين المالكي، ثم عصفت بنخيل الكرخ، وبمطعم أبي نواس أعتى الرياح، في كل هبوبٍ رائحةٌ كريهة، وتحتَ كل «شادور» أرملة، تاه أولادها بين الحروب والمنافي، وتكاثر عند «كهرمانة» ملايين اللصوص. لن أصوّب الأخطاء في القصة، فلم يجدْ علي بابا تعويذةً ليفتحَ بها أيّ باب، حتى جاءه، من هناك، من يقذف العراق بالمنجنيق، ويصيح: يا حسين.
غضب الأميركي من شعار الحملة ضد «داعش». قال المترجمون العرب في البيت الأبيض: «يصلح عنواناً لصحيفة مذهبية بالفنط الأسود العريض». لم يفهم الرجل الأميركي الالتباس في علم البديع العربي بين «الفنط» و«النفط»، وربما أضاف أنها محضُ بلاغة عربية، لا تضرُّ، ولا تنفع.
حسناً. هذا حشدٌ حول الرمادي، لا بلاغة فيه. لا استعارة. لا حياد. كان يجب أن يكون حشداً عربياً خالصاً لتدمير «داعش». لكنّ إيران تتحرك دائماً في الغياب، حيث الرمال المكشوفة. وتطلب رأس أمة بأكملها، وتتهيّأ لتعبئة التاريخ برؤوس نووية، تشعل حولها مزيداً من نار المجوس.
twitter@basilrafayeh
brafayh@ey.ae
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .