أبواب

ثقب الذاكرة

خليل قنديل

مازلت أذكر شكل الرجل الستيني الذي كان يتنطنط أمامي بشقاوة لافتة بينما ترافقه نظرات أبنائه وهي تتقافز حوله بنوع من الحنو الفائض، وحينما بدت ملامحي تفيض بالسؤال عما جرى للرجل الذي كان يحضر بطبيعته المختلفة هذه، تقدم مني أحد الأبناء وهو يعي شكل المفاجأة في ملامحي وهو يقول: اعذره إن والدي أخذ يفقد ذاكرته بالتدريج، وهذا الارتباك الفاضح في ملامحه ما هو إلا استغاثة تشير إلى حجم ذاك الفقدان.

«إن والدي أخذ يفقد ذاكرته بالتدريج، وهذا الارتباك الفاضح في ملامحه ما هو إلا استغاثة تشير إلى حجم ذاك الفقدان».

«حينما أوقف أحد المارّة كي أسأله عن قريني المفقود كنت أراه وهو يبتعد ويضحك راسماً شارة النصر».

وقبل أن أسأله عن الكيفية التي حدث بها هذا واصل الفتى شرحه عن حالة والده بالقول: كما ترى فهو يجلس طوال اليوم بعادية موجعة، لكن حينما يدق «الكوز» بجدار الذاكرة تراه وهو يعاني من كل هذا الارتباك ويفقد صلته الطبيعية بكل من حوله، ويبدأ بمطاردة ذاكرته الهاربة منه.

وكان عليّ لحظتها أن أعيد ترتيب حضور هذا الرجل في ذاكرتي، إطلالته الأولى في مطلع الشباب وتلك القامة الصارمة التي تجعل من عينيه تتراقصان في محجريهما، كل هذا التراقص والارتعاشة المُصمته في أصابعه.

كان هو ذاته الرجل الذي كان يمد عنقه في تلك اللحظة تاركاً فتحتي أنفه تتنشقان كل هذه الكمية من الهواء لينفثها بشهيق متقطع ويزفر زفرة الختام، كان هو ذاته صديقي الذي تعرفت عليه قبل ثلاثين عاماً بقامته الممشوقة وفتحة ياقته التي كانت تجعل صدره ينقذف إلى الأمام بطريقة كانت تذكرني باندفاع صدر ديك.

وبينما كنت ألتهم الرجل بعيني سمعت صوت ابنه الذي كان ينطوي في إيقاعه على نوع من الترجي، كان الرجل يصول ويجول في ذاكرتي فأراه وهو يغني بينما صوته يصدح بسرد البطولات التي تدلل على عنتر بن شداد والزير سالم، وباقي البطولات السردية التي تحتل الذاكرة العربية، أو أن أستمع الى سرده الوصفي والجميل وهو يصف نساء جميلات حفرن في ذاكرته، وكان يتوقف أحياناً وكأنما صديقته الواقعة في الوصف تشده نحو ذاكرته ليتذكرها بشكل أكثر جودة، ثم فجأة أراه وهو يقوض كل هذا ويبدأ من جديد وهو يقول: «الملعونة كان لها شحمة أذن أرق من الزبدة الطرية». وكان يختتم هذا بدندنة وداعية تنم عن الحسرة والفقدان.

الرجل كان يتوقف عن كل هذا التداعي بشكل مفاجئ ويدق بحنق طفولي كعبيه على الأرض ومن ثم يعطي يده لابنه كي يقوده في المشي، بينما أظل أنا أجلس وأنا أمسد فوق رأسي ربما كي أمسح هذا الرجل من ذاكرتي وأحاول القبض على ذاكرتي، وهنا كان عليّ أن أجهش بالبكاء.

لا لشيء سوى أن هذا الرجل كان يشبهني كثيراً الى الدرجة التي كانت تجعلني أسير هائماً على وجهي في الأسواق والطرقات وازدحام المساجد. وحينما أوقف أحد المارّة كي أسأله عن قريني المفقود كنت أراه وهو يبتعد ويضحك راسماً شارة النصر ومن ثم يختفي.

ربما كان على كل من أسأله أن يضحك لأن الأوصاف التي كنت أطلقها على الرجل كانت ربما تشبهني تماماً.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر