أبواب

المقهى الثقافي

يوسف ضمرة

في عواصم الدنيا كلها، هنالك أماكن تخص جماعات لهم هوية مشتركة، فهنالك أسواق الخضار مثلاً، التي تتجاور فيها المحال، لكن أصحابها لا يشكون قلة الرزق، أو «خطف الرِّجل». وفي عمان مثلاً، هنالك سوق تدعى «سوق الحرامية»، حيث تجد فيه ما يخطر على البال وما قد لا يخطر أبداً، من قطع مفقودة في البلد، إلى مهن تبدو كأنها انقرضت، مثل «ميكانيكي بريموس الكاز» و«شاحذ السكاكين» ذي العجلة الكبيرة التي كان يدور بها على ظهره بين الأحياء، وهو ينادي «مجلخ سكاكين» بإيقاع لا يتقنه سواه.

وأخيراً.. برزت للكتاب والفنانين أيضاً أماكنهم التي أصبحوا يعرفونها جميعاً، ويألفونها كذلك.

المقاهي تحرر الكاتب من روتين المنزل، ومن صرامة البيت الثقافي وجهامته، حيث يشعر الكاتب في المقهى باختفاء الضوابط الخارجية والذاتية، وينطلق في حوارات وسجالات لا تتوافر في مكان آخر.


الضحك، الذي توفره تجمعات المقاهي الثقافية، يمنح الكاتب قوة متجددة، لمواصلة مشواره الثقافي.

كانت الحمراء في بيروت ملتقى الشعراء والأدباء والفنانين، بحيث تحولت حلماً يسعى إليه الكاتب العربي في المشرق والمغرب. ونعلم جيداً أن كتاباً وأدباء عرباً تخرجوا في الحمراء في بيروت، مثل غادة السمان، ونزار قباني، ومجدداً أحلام مستغانمي. من دون أن ننسى الأدباء الفلسطينيين والعراقيين والجزائريين، الذين وجدوا في المقاومة الفلسطينية في بيروت نافذة مشرعة على العالم العربي.

مناسبة هذا الكلام هي أننا أخذنا نستنشق حمراء بيروت الثقافة والفنون في عمان. وتحديداً في جبل اللويبدة، وتحديداً أكثر دقة، حول دوار باريس.

لم تشكل الهيئات الثقافية الموجودة أصلاً في هذا الجبل حالة ثقافية كالتي نشهدها الآن، فمديرية المسرح ونقابة الفنانين ورابطة الكتاب الأردنيين ودارة الفنون ودار الأندى، وغيرها، كلها سبقت هذا التحول الكبير والمفاجئ، والسبب الرئيس كما أظن هو المقاهي الثقافية، فقد انتبه بعض المهتمين إلى أهمية المقهى غير التقليدي في جذب المثقفين، ومن هذا الباب ولج كثيرون، ليفاجئوا الكتاب والأدباء بمقاهٍ مختلفة عن ما عرفوه من قبل. فهي مقاهٍ تزاوج بين الثقافي والتجاري؛ ديكورات ولوحات فنية مميزة وغير تقليدية؛ موسيقى كلاسيكية؛ إنترنت.

هنا صار المثقفون لا يذهبون فقط لمجالسة بعضهم بعضاً. فثمة رواد من محبي الثقافة والفن يطمئنون إلى هذه الفئة أو الشريحة من الناس، وربما يفضلونها على شرائح أخرى، كما أن الكتاب والأدباء يذهبون وهم يعلمون أنهم سيصادفون زملاء وأصدقاء لم يروهم ربما منذ سنوات خلت.

هذه الظاهرة جديدة على عاصمة كعمان، كان كتابها وأدباؤها موزعين في أماكن عدة، ولم يتركوا بصمة في مكان محدد، كما يفعلون اليوم. واللافت أنه مع بروز هذا المكان كهوية ثقافية وفنية، أخذنا نلتقي بسهولة مع أدباء وكتاب عرب جاؤوا لإقامة ندوات، أو للمشاركة في مهرجانات أو معارض الكتب. فقد صار من الصعب أن يأتي أحدهم ويغادر من دون أن يمر بهذه المقاهي، صحبة أصدقاء وزملاء من الكتاب والمثقفين الأردنيين.

الظاهرة جديدة على عاصمة كعمان، لكنها بالطبع ليست كذلك في عواصم أخرى. فقد عرفت القاهرة بمقاهيها الثقافية أيضاً، وكذلك دمشق وبغداد. ويبقى السؤال: لماذا تشكل المقاهي مركز جذب للكتاب والأدباء والفنانين أكثر من بيوتهم الثقافية والفنية كالروابط والاتحادات؟ والإجابة بسيطة في شكلها؛ فالمقاهي تحرر الكاتب من روتين المنزل، ومن صرامة البيت الثقافي وجهامته، حيث يشعر الكاتب في المقهى باختفاء الضوابط الخارجية والذاتية، وينطلق في حوارات وسجالات لا تتوافر في مكان آخر، من دون أن ننسى موضوع الضحك، الذي توفره تجمعات المقاهي الثقافية، الأمر الذي يمنح الكاتب قوة متجددة لمواصلة مشواره الثقافي.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر