أبواب

تأمّلات ليست عابرة

يوسف ضمرة

هل انتهت صلاحية بعض المصطلحات الثقافية؟ أين الرواية التاريخية والرواية التسجيلية والوثائقية مثلاً؟ هل كنا نردد ما يأتينا دون تروٍّ وتأمل كافيين؟ هل حقاً كانت هنالك روايات تاريخية أو تسجيلية أو وثائقية؟ وهل تمكّن أحد من وضع الفواصل بين هذه الأنواع؟

الذين يشتغلون بالنقد في عالمنا العربي، لا يخفون اتكاءهم على مرجعياتهم الأكاديمية، سواء كانت محلية أم أجنبية؛ عربية أم غربية. وهم غالباً ظنوا أن كل ما يقال لهم، وكل ما يدرسونه هو الحقيقة، فرواية تتناول مرحلة زمنية ما أطلق عليها أحدهم صفة الرواية التاريخية؛ ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً وصفت هكذا. ما معنى «تاريخية» هنا؟ لم يتساءل الكثيرون عن ذلك. كان مبرر التسمية أو التوصيف هو أن شخوص الرواية وأحداثها تتحرك ضمن مساحة زمنية معروفة لنا؛ مساحة زمنية من ماضي مصر القريب. لكن، أي رواية لا يحدث فيها هذا؟ بمعنى هل هنالك رواية تخلو من الشخوص والوقائع في مرحلة زمنية محددة؟ هل يكفي أن توغل الرواية في الماضي أكثر، لكي نسميها رواية تاريخية؟ أستثني هنا روايات جورجي زيدان، فهي قصة أخرى.

الفنان لا يسجل ولا يوثق؛ فالتسجيل والتوثيق مهمتان يقوم عليهما أناس آخرون، ومؤسسات أخرى، صغيرة أو كبيرة، أما الفنان فيوحي ويفجّر الواقعة.


إيراد مجموعة من الحقائق أو الوقائع لا يمنح الرواية صفة التوثيق، فكل عمل أدبي هو عملية اصطفاء فني.

وبالمثل، يمكن الحديث عن الرواية الوثائقية والتسجيلية، فلا مكان هنا لهذه المصطلحات أبداً، فإيراد مجموعة من الحقائق أو الوقائع الموضوعية لا يمنح الرواية صفة التوثيق. فكل عمل أدبي ـ الرواية هنا ـ هو عملية اصطفاء فني في المقام الرئيس، والروائي لا يأخذ الوقائع كلها في مرحلة زمنية محددة ويلقي بها في وجه القارئ؛ لا رواية كذلك أبداً. حتى رواية صنع الله إبراهيم «بيروت.. بيروت» لم تكن كذلك، حيث اختار إبراهيم من الوقائع اليومية ما يريده لخدمة العمل الفني، وهو الرواية. لم يقرأ علينا صحف أيام الحرب الأهلية كلها أو جزءاً منها. اكتفى ببعض العناوين من هنا وهناك، ووظف نفسه كروائي ـ شخصية ـ روائية، تقوم بالاستقصاء والبحث، لذلك كانت قراءة الرواية مختلفة بين ناقد وآخر، بحسب موقفه السياسي حيناً، ورؤيته الفنية حيناً آخر. ولو وضعنا تلك الصحف والوقائع عينها أمام روائي آخر، فهو قطعاً كان سيختار مقتطفات أخرى، ويحذف شيئاً مما اختاره صنع الله إبراهيم.

التأريخ ليس ضمن مهمات العمل الروائي، أو الفني بشكل عام، ولو لم يقل لنا أحد إن لوحة «الجيرونيكا» للفنان الكبير» بابلو بيكاسو كانت تعبيراً عن قصف «جيرونيكا الباسك الإسبانية» من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية عام 1937 أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، لما عرفنا ذلك بالمشاهدة وحدها، ولربما خرج المشاهد بانطباعات أخرى، أو تأويلات أكثر انفتاحاً على القيم الإنسانية والوجود كله على إطلاقه، بل يمكن القول إن حصر اللوحة في هذه الحادثة قلل أهميتها الفنية، لتصبح اللوحة مجرد تذكار من الحرب الأهلية الإسبانية، دون التقليل من جبروت البطش والقتل والموت فيها، وهي العناصر التي تنسحب على أي واقعة شبيهة، كالتي تحدث في أيامنا هذه على سبيل المثال. وبالطبع دون الاستهانة بالمقدرة الفنية للفنان الكبير.

الفنان لا يؤرخ؛ الفنان يستوحي.. تلهمه الوقائع والأحداث والتطورات التي يعيشها أو التي قرأ عنها، ليعبر عن شيء ما في داخله. لا يسجل ولا يوثق؛ فالتسجيل والتوثيق مهمتان يقوم عليهما أناس آخرون، ومؤسسات أخرى، صغيرة أو كبيرة، أما الفنان فيوحي ويفجّر الواقعة، يستلهم الماضي والحاضر، ويتحرك ضمن مفاهيمه ووفق رؤيته لكل ما يحدث.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر