أبواب

«اكتشاف الوطن»

يوسف ضمرة

في عام 1986 أقمت في السويد مدة شهرين وبضعة أيام، وبعد عودتي بسنة ونصف السنة، بدأت في كتابة حلقات عن تلك التجربة. واليوم أتذكر هذه الحلقات التي نشرتها جريدة أردنية، وأنا أتصفح الطبعة الثانية من كتاب حياة الحويك عطية «اكتشاف الوطن» الذي يروي رحلات الكاتبة داخل الأردن.

دافع الربط بين تجربتي وهذا الكتاب ليس من قبيل تذكير الآخرين بأنني خضت تجربة هذا الجنس الأدبي، فالدافع الحقيقي هو أنني تذكرت ما كتبته، واكتشفت أنني لم آت في كتاباتي تلك على المواقع السياحية والتاريخية والطبيعة السويدية الملهمة، بمقدار ما كان تركيزي على العلاقات الإنسانية، والسلوك الإنساني، وتفاصيل الحياة التي تكشف ثقافة الآخر، وتفكيره ومفاهيمه وقيمه ومشكلاته.

كانت تكتشف في زياراتها جذوراً قومية للأردن، وتكتشف أن كل ما جاء في التوراة المعتمدة اليوم لم يكن سوى نتاج مخيال أرعن. وليست مصادفة الآن أن جميع دارسي الأساطير والأديان يستبعدون التوراة مرجعاً تاريخياً.

حياة عطية ذكرت تفاصيل الكثير من المواقع الأردنية، لكنها لم تذكرها على عادة السائحين أو المصورين الفوتوغرافيين، ولذلك كان عنوان «اكتشاف الوطن» مخاتلاً بعض الشيء، لأنه لا يعني التعرف إلى المكان في شكله وهندسته وقيمته السياحية، وإنما يعني قراءة الهوية الوطنية والقومية للفرد والجماعة، من خلال قراءة المواقع التاريخية التي تناولها الكتاب.

تخبرنا الكاتبة أن كل ما كتب عن المواقع الأردنية «سياحياً» ــ حين صدرت طبعة الكتاب الأولى في الثمانينات ــ كان بأقلام غير عربية، وكانت التوراة والذاكرة الغربية عن المنطقة المرجعين لتلك الكتابة. وتخبرنا أنها، وعلى الرغم من انبهارها بجماليات المواقع، كانت تكتشف في زياراتها جذوراً قومية للأردن، وتكتشف أن كل ما جاء في التوراة ــ المعتمدة اليوم ــ عن فلسطين والأردن، لم يكن سوى نتاج مخيال أرعن. وليست مصادفة الآن أن جميع دارسي الأساطير والأديان يستبعدون التوراة مرجعاً تاريخياً.

تصوب الكاتبة كثيراً من «الإسرائيليات» المتداولة، وهي تنقل تاريخ المكان لا شكله وبناءه فحسب. هكذا فعلت بعمان أيام السبي البابلي وبجبل نبو وبانتصار ميشع. وبينما تتحدث الإلياذة عن قيمة التضحية وإعلائها في سبيل الكرامة والوطن، عندما قدم آغاممنون ابنته قرباناً لإله الريح، نجد الإسرائيليات تفسر تضحية ميشع بولده بشكل مغاير، حيث تفيد بأن اليهود خافوا غضب الرب ففكوا الحصار عن ميشع وشعبه، فقط لينفوا انتصار ميشع وانكسارهم.

تتحول الكتابة هنا من مجرد نقل لمواقع وأماكن جامدة، إلى إعادة قراءة للتاريخ الأردني، في إطاره القومي، وتخرج بتأكيد مفاده أن الانتماء القومي الأردني هو الذي حمى الأردن تاريخياً، الأمر الذي يفسر تلك العلاقة والترابط بين البتراء والأنباط وتدمر. فالأردن هو جزء من سورية الطبيعية، وليس مفاجئاً أن يبني الأمويون قصور شتائهم في صحراء الأردن.

«هو وعي الهوية وحده ما يدفعنا إلى الإغراق في اكتشاف ملامحها وتفاصيلها. التجريد وحده لا يكفي. لابد من الملموس والمحسوس بمعرفة وفضول»، و«هو الوعي القومي يبدأ عاطفة وإيماناً ويتطور معرفة وتحقيقاً»، هذا ما تقوله الكاتبة في مقدمة الكتاب، فهي تدرك جيداً ماذا تريد من هذه الأسفار والرحلات، إنها تؤكد إيمانها بفكرة أو أفكار آن الأوان لتلمسها مادياً وتاريخياً، من خلال معاينة المكان الذي ننتمي إليه. آن الأوان للبحث في تاريخ الأمة عبر آثارها، عن تلك الهوية التي تحتاج إلى ما يؤكدها ويرسخها.

هو نوع جديد من الكتابة، يختلط فيه أدب الرحلات بالتاريخ بالأنثروبولوجيا بالسياسة والأساطير، وليس مجرد عبور وتمجيد لأمكنة صماء، فالروح هنا هي التي تتحرك وتنبعث وتحكي وتروي الكثير.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر