أبواب

قرن الكلام العربي

خليل قنديل

مازال العربي يعاني دهشة حضارية ومعرفية إزاء الحياة التي تجري على جانبيه، وهو بهذا الملك الطفولي المعرفي يكون قد اعتذر عن فعل تقميش المعاني ومساءلتها، ودخل في مهرجان التأويل في كل مفردة حضارية يمكن أن تولدها حركة الحياة.

«العربي حين يُطيل أمد النظر في الحضارة السابحة بين يديه يمارس حالة من العماء المتعمد، مع أنه يلاحظ أن قوى التحضر الغربية تقوم مضارعياً وتاريخياً على فعل المكاشفة، والحض والإيقاظ الدائم للأسئلة».

«فك لجام الأسئلة وجعلها طليقة، هو الفعل الحضاري الضروري لجيل كامل مازال يرتبك كلما استيقظت الأسئلة في رأسه».

والعربي إذ يفعل هذا ينسى الحياة المندفعة بجريانها كنهر هادر جارفة كل شيء على جنباتها، ومقتلعة كل الزوائد الحياتية من جذورها، فالعربي مازال يستطيب دهشة الخلق ومتعة التعبير عن الحادثة بأبسط الأدوات المعرفية، تاركاً الحياة تتقدم بفعل هذا الجريان لتعمل على إهمال وجوده الفيزيائي.

والشاعر الذي اتهم العرب على اعتبار أنهم ظاهرة صوتية استطاع ان يضع سبابته على الجرح تماماً، ذلك أن الفعل الحضاري العربي لا يتعدى كونه حالة من الضجيج الصوتي الذي لم يكلف نفسه عناء الحفر في تفاصيلها والكشف عن خباياها.

ولعل الباحث تفصيلياً عن فحوى هذا الطرح سيكتشف وبقليل من العناء أن الكتابة العربية لا تتحمل عناء ووعورة الكشف المعرفي بقدر ما تتعلق بالكتابة الفرحة بطوق النجاة الذي قذفه لليد العربية الباحثة عن مفاتيح ساذجة لفك طلسم وعورة الخلق التي نعيشها.

وأنت إذا حاولت الاعتراك مع المنجز العربي السائد فكرياً فأنت لن تقبض إلا على لغة توصيفية ركيكة لما هو سائد، وأنك ربما تقع في براثن التقميش اللغوي وتلك اللغة المتورمة بالإنشاء ومعاني البديع، باعتبار ذلك هو الهم المعرفي الأول في مدرسة التعبير.

والعربي حين يُطيل أمد النظر في الحضارة السابحة بين يديه يمارس حالة من العماء المتعمد مع أنه يلاحظ ان قوى التحضر الغربية تقوم مضارعياً وتاريخياً على فعل المكاشفة والحض والإيقاظ الدائم للاسئلة.

وهو إذ يفعل هذا فإنه يمارسه كنوع من الاستنارة في مناخ الظلمة المعرفية التي تكون في أمسّ الحاجة لأي بصيص من نور، فضلاً عن كونه يرى هذا المسلك كفعل وقائي من الإصابة بدهشة الغباء المعرفية التي يحاذر الوقوع في براثنها أي مسلك في رحلة تحضره الأولى. وعلى هذا الأساس يمكن الجزم بأنه ما من حضارة وليدة إلا وتسعى الى الاشتباك فلسفياً ومعرفياً مع كل ما هو طارئ وجديد عليها.

والحضارة الغربية لم تكفّ في يوم من الايام عن طرح الأسئلة والمحاولات الدائمة للاجابة على الاسئلة التي عادة ما يولدها الكشف عند كل جديد، والأمر لا يتوققف عند طرح الاسئلة بل يتعدى ذلك الى طبيعة الجرأة في طرح الاسئلة. ويمكن القول أيضاً إن الجرأة في طرح الاسئلة هي خطوة باتجاه تثوير الأجوبة.

إن العربي الذي أقام هدنة طويلة الامد مع مخياله وهو يعمل مع مخياله على تدجين الاسئلة صار الآن بحاجة كي يثوّر أسئلته ويمنحها طعم الحنق المعرفي الذي يسعى للإمساك بتلك الأجوبة التي صارت تتفجر وتتوالد فوق رؤوسنا.

إن فك لجام الأسئلة وجعلها طليقة هو الفعل الحضاري الضروري لجيل كامل مازال يتعرق ويرتبك كلما استيقظت الأسئلة في رأسه، ولعل خسائرنا الحضارية التي بدأت بالتراكم أمامنا تحدث بسبب عدم قدرتنا على إشهار الأسئلة في وجه حضارة تكاد تغمرنا.

نحن نفعل هذا ونحن نعي تماماً أن عدم الجرأة في طرح الأسئلة هو بداية جنازتنا المعرفية والحضارية، ذلك أن ما من حضارة استطاعت أن تقف وتصمد أمام المتغيرات إلا وهي قادرة على طرح الأسئلة.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر