أبواب

معلم الإبداع

يوسف ضمرة

لا ديستويفسكي ولا ماركيز ولا غوته ولا ثربانتس درسوا فن الكتابة الإبداعية في كلية أو جامعة أو معهد أو مدرسة، هؤلاء وغيرهم وجدوا أنفسهم تواقة إلى التعبير عن شيء ما في دواخلهم، أو ربما السؤال عن شيء ما، فكتبوا وأهدوا البشرية كنوزا لا تصدأ بمرور الزمن.

مناسبة الكلام، هي ما نسمعه بين حين وآخر عن ورش إبداعية أو مختبرات سردية أو ما شابه ذلك. والأكثر مدعاة للغرابة، أن يأتي أكثر من كاتب معروف ليسكبوا تجاربهم على مسامع «الطلبة»! فلا كاتب يشبه الآخر، ولا كاتب يدرك سر الكتابة ويمنع هذا الإدراك عن سواه من الكتاب والأدباء والشعراء. ففي كل مرة يُسأل الكتاب والأدباء السؤال التاريخي «لماذا تكتب؟» نكتشف إجابات متباينة ومختلفة.

طالما لا أحد في استطاعته تعليم الإبداع لشخص ما، فليس من الحكمة أن يقوم بعض الكتّاب المعروفين أو المشهورين، بتقمص دور المعلم، خصوصاً وهو يدرك أنه لم يتلقَّ في حياته من قبل درساً واحداً في الإبداع.

يستطيع كل كاتب أن يقول في الإبداع ما يشاء، لأن الإبداع سري وغامض في دوافعه ودلالاته. فلا أحد يمكنه تقديم إجابة شافية عن الدافع وراء رسومات الكهوف في عصر طفولة البشرية. هنالك تأويلات ومحاولات للفهم، لكن أحداً لا يمكنه القطع بإجابة مطلقة. وهو ما ينطبق تماماً على الكنوز الإبداعية المختلفة، من سرد وشعر ورسم وموسيقى ونحت وتشكيل.

من المؤكد أن هنالك علاقة سرية أو غامضة بين الإبداع والبنية النفسية للفرد. ومن المؤكد أن التجربة تفتح أمام كل مبدع أفقاً مختلفاً عن آفاق الآخرين. وعليه فإنك لا تستطيع أن تضع منهجاً محدداً وتلقنه لمن يرغب، فيصبح مبدعاً. تستطيع أن تعلم الناس اللغة وقواعدها، وبعض استخداماتها الجمالية من تقديم وتأخير واستعارات. وتستطيع أن تشرح معنى المجاز اللغوي، وتفسر معنى الانزياحات اللغوية في الشعر، لكنك لا تستطيع أن تخبر أحداً كيف يبتكر انزياحاً لغوياً في القصيدة، «فالقصيدة رمية نرد تشع أو لا تشع». وهذا الانزياح هنا إبداع خالص لشخص محدد ومعروف، ولم تذكره كتب اللغة والبلاغة والنقد والقواعد.

قبل أيام استمعت إلى ناقد يتحدث عن تداخل الأجناس، ولكني لم أفهم كيف يحدث ذلك، لأن الناقد لا يمتلك بعداً إبداعياً يقدمه لمن يستمع إليه؛ هو يكتفي بالقول إن هذا التداخل مطلوب ويميز العمل الإبداعي، ولكنه لا يعرف كيف يمكن للأجناس الإبداعية أن تتداخل.. كيف تستفيد القصة القصيرة جداً من قصيدة النثر أو العكس. ذلك أن المبدع نفسه في أحيان كثيرة لا يعرف سر هذا التداخل الذي ملأ النص، ولا يعرف الضرورة الإبداعية التي فرضت هذا التداخل. لكن المؤكد أن هذا التداخل ليس خط إنتاج إبداعي نفتتحه بناء على ازدياد المبيعات. كما إنه ليس ضرورياً أو لازمة في كل عمل إبداعي.

وطالما لا أحد في استطاعته تعليم الإبداع لشخص ما، فليس من الحكمة أن يقوم بعض الكتاب المعروفين أو المشهورين، بتقمص دور المعلم، خصوصاً وهو يدرك أنه لم يتلقَّ في حياته من قبل درساً واحداً في الإبداع. لكن المبدع، يتعلم بطرق أخرى غير تقليدية؛ يقرأ هذا وذاك، ويؤثر فيه هذا النص أو ذاك، وتخطفه ومضة من هنا أو من هناك، ويسحره انسياب نص ما، أو تأويلات لا حصر لها.. إلخ. هكذا يتعلم المبدع، لا في ورشة أو في مختبر. ولكن المعلم الأول هو الحياة، بتفاصيلها وغموضها وتناقضاتها ولغزها القائم والمتجدد؛ القلق البشري الأزلي والأبدي، الذي يمكن اعتباره وقود الإبداع.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر