كل جمعة

«الاستكبار» الجديد

باسل رفايعة

«داعش» ليست وحدها، الخريطة مكتظة بالدماء والفجائع، والتوحش يبني أقواساً للنصر، ويرفع الجماجم على رؤوس الطوائف والظلمات. لكل دولة خرافاتها واستعاراتها، وشهوتها في تضييق النوافذ، وتوسيع الخنادق، ثمة استكبارٌ يتمدد أيضاً، على تراب عربي، متروكٍ للفجائع والغرباء.

السباق لا يتعب في الأزمة والأمكنة، لا أنواع للهمج، لا فوارق تذكر بين المدوّنات الصفراء التي يحفظها الشذوذ، مثل دليل، يشرح أيّهما الأصح في جزّ الرؤوس، من حيث تبتلع الضحية ريقها، أو من مفصل عظام الرقبة؟ هنا التأصيل والتقليد، وهنا الاجتهاد في المعنى، والمعنى في يد القاتل وحده، حين ينهض التاريخ مثقلاً بالحروب وبالهويات وبالتفتيش عن بقع الدم على الرمال.

«الاستكبار بأحلام إمبراطورية، وبدفاتر عتيقة، يزحف لملاقاة معارك قديمة في الأمكنة نفسها.. لا ينسى أن ثمة كرخاً ورصافة.. النهر له شاطئان، وهو يقسم العشب والطمي فقط، أما الذاكرة فهي دائماً تتقيأ أزمنة سوداء ومُرّة».

سباقٌ في مرايا مغلقة حتى نهايات الانعكاس، جدل كثير الهذر بين الأساطير. جنرالات يسردون الحروب حول الفرات، وعلى ضفاف المتوسط، وقريباً من باب المندب، يبحثون عن تيجان ونياشين. «داعش» عنوان الفضيحة الكبرى، أما التفاصيل فعابرة للحدود والشهود.

ماذا يفعل الجنرال في تكريت؟ متى تنتهي نزهته؟ كم من غير «الدواعش» احترقوا في «البوعجيل» ثأراً من الماضي؟ الشاحنات تنقل الصواريخ والعتاد إلى جنوب لبنان.. بشار الأسد يقاوم الشعب السوري.. المقاومون معه: رجال محترفون ومدججون بأحقاد التاريخ، وأيضاً بطائرات، ودبابات، قال لنا قادتها ذات يوم إنها منذورة لمحو إسرائيل من الخريطة.

إلى أي الطائرات ينبسط الإسفلت في مطار صعدة «الدولي»؟ هل يتفرغ البحر الأحمر لـ«الاستكبار» الوحيد والجديد في المنطقة؟ الاستكبار المعكوس والمقصود الذي بات يسيطر على دول وجغرافيا، أكثر أهمية من صناعة قنابل نووية، وإذا نجح في بسط لونه، على أسوأ مما نرى، فلا أهمية لتخصيب اليورانيوم بنسب ملائمة، الاحتلال أكثر واقعية وجدوى!

الاستكبار بأحلام إمبراطورية، وبدفاتر عتيقة، يزحف لملاقاة معارك قديمة في الأمكنة نفسها، لا ينسى أن ثمة كرخاً ورصافة، النهر له شاطئان، وهو يقسم العشب والطمي فقط، أما الذاكرة فهي دائماً تتقيأ أزمنة سوداء ومُرّة.

يحلم الاستكبار ببغداد منزوعة من آشور، ومن المنصور، ومن الرشيد.. حلّ في صنعاء. لم يكن السفر صعباً وطويلاً، عيونه على مضائق البحار والخلجان، وحيثما حلّ يجد عصابات وعصائب تسعى إلى استئناف التاريخ من العام 680 م.

قال المستكبر إن أربع عواصم عربية أصبحت تابعة له، وقال أيضاً إن بغداد عاصمة إمبراطوريته التي تعيش «الجهاد الأكبر»، وهو كمن يلعب على أرضه وجمهوره، إنه يعيش فعلاً متعة هذه اللعبة وغطرسة المنتصر الوحيد. لا يضيف لك شيئاً عن إسرائيل، فمحور «المقاومة والممانعة» يحتاج إلى خطيب مفوّه، لا يلثغ بحروف الرواية، مثل حسن نصرالله، وإلى قائد فذ في صناعة البراميل وتفجيرها في حمص وحلب وحماة ودرعا، مثل بشار الأسد. لا إضافات لديه في ما يخص بنيامين نتنياهو. الجهود والإمكانات مركزة في ترتيب الجوار القريب والامتداد البعيد. من حراسة الحليف في دمشق، والاختباء وراء دحر «داعش» في العراق، إلى ترهيب لبنان، وزراعة الثأر والقات في صعدة.

«داعش» ليست وحدها، مَنْ ينهش الجسد العربي، وينشر الخراب والأكاذيب، ويريد تحويل الأنهار، ودفن مصباتها في النفط. المستكبر يشاركه في المهمة والطموح، كلاهما يقطع رؤوس البشر، ويحرق القرى، ويُعيد قصّ الحكاية من أولها، لا مفاجآت في ما يحدث، لا غرابة، الوحوش وُلدت في التاريخ، وتربّت بين أكنافه، وما تيسّر من شهواته الدموية، وباتت ضواري الآن، ودونها ما تريد من بشر، وما تريد من صحارى وغابات.

brafayh@ey.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر