أبواب

الواقع وشهوة الحلم

خليل قنديل

مازلنا رغم قشرة التحضر التي نغلف بها أرواحنا نعمل على تأسيس الروابط المتينة مع تاريخنا العروبي، ومازالت البنية الحضارية العربية ترتع فرحة بالمعطى الحضاري الماضوي كمادة دسمة تحتمل كل أثقالنا الروحية الدبقة.

«أنا من جيل لايزال يذكر تلك المسافة الموحشة بين الواقع والرغبة العارمة في البقاء داخل مساحة الحلم، ذلك أن الواقع الذي كان يلامس أرواحنا بقسوة لم يكن يحتمل اقتراب الحلم منه».


«الجنين العربي يبدو أنه أقرب إلى النشيد في تأسيس لبناته الأولى».

ونحن مازلنا نعمل بكد جمعي على حقن أوردتنا الشابة والفتية بحقنة الماضي التليد، وإعادة تأثيثه في الروح العربية من جديد، وتبدو هذه الوصفة بأرقى درجات الوضوح والتجلي لحظة استقبالنا للوليد الطازج، ذلك أن الجنين العربي يبدو أنه أقرب إلى النشيد في تأسيس لبناته الأولى، وعليه فإن هذه الجلافة التربوية تبدو من أهم المظاهر التلقينية التي لا تحتمل الطراوة أو اللين.

فحضارتنا العربية السائدة ما إن تبدأ باسبشار مقدم الوليد حتى تبدأ بحرث كل المعطيات التي توصلنا بالماضوية الرصينة والصلبة، والتي لا تحتمل الختل أو المزاح، ومع كل ولادة جديدة نبدأ بتهييج قوانا التذكرية تجاه الماضي، بكل ما يحمل هذا الماضي من خصوبة في التذكر والاحتماء به من القسوة القادمة مع مضارعنا النيْ والقاسي.

وأنا من جيل مازال يذكر تلك المسافة الموحشة بين الواقع والرغبة العارمة في البقاء داخل مساحة الحلم، ذلك أن الواقع الذي كان يلامس أرواحنا بقسوة لم يكن يحتمل اقتراب الحلم منه، بل يؤثر في أن يظل في مساحة متدلية فوق رؤوسنا، ومازلت أذكر كيف كان يحرص الكد الجمعي على إبقاء شهوة التذكر عصية على التحقيق.

أما على مستوى علاقتنا بالحاضر المضارع، وآثاره المستقبلية، فقد كانت هذه العلاقة من العلاقات المحرمة التي توجع الرأس، لهذا كان على معطياتنا التربوية أن تجد وتجتهد كي تحمينا من وحشة الوحدة مع مضارعنا القائم أو مستقبلنا، ذلك أن الماضي بقصصه وحكاياه كان يبدو لنا أقرب إلى السرد السحري الأخاذ.

فأنت كلما رحلت في غيبوبة الحلم والتذكر، وقطعت مشيمة تواصلك مع المضارع الذي يخصك، ومع فعلك المستقبلي، تكون في رحلة إعفاء مجانية من كل التعثرات التي من الممكن أن يسببها لك الواقع المعاش، وهنا بالضبط يمكن لنا الإمساك بعنق الهيلمان التربوي العربي، وهنا أيضاً يمكن ملاحظة أن الكائن العربي هو شخصية أقرب ما تكون إلى النشيد الحالم، البعيد عن أي خطوة إجرائية على صعيد تحقيق الذات وبناء المخيال.

فالقصة الماضوية التي تلتصق برأسك هي قصة ممضوغة، وكثيرة الاستعمال، وسهلة التحقيق، وذلك لأنها تعفي نفسها من لدغة التحرش الفكري قبل كل شيء، معتمدة على المعطى السائد الجاهز تاريخياً لفعل الاستقبال، ولذلك من السهل تسويق بعض الجمل تربوياً، مثل مقولة «العرب أشرف أمة ومن شك في ذلك كفر»، أو القول عن المولود الذي ما إن يطأ الثرى حتى «يخر له العالم ساجداً»، وعليه فإن الجملة الفعلية التي تتناسب مع ما هو طارئ جاهزة، وتظل بانتظار نطقها.

إننا في الزمن الوحش الذي نعيش بتنا في أمسِّ الحاجة إلى دربة خاصة في التواضع التعبيري عن أنفسنا، بعيداً عن كل هذه الضجة الصوتية التي صارت تميز واقع حدوثنا اليومي والتاريخي.

ولو أن العربي اهتم قليلاً بمنتجه الكلامي، وحاول تطبيقه على الواقع حوله، لكان بالإمكان قياس مستوى عافية الخلق التعبيري عنده، والعمل على معاقبته على كسله التاريخي، لكن العربي آثر أن يضع رأسه في الرمال، على طريقة النعامة، وهذا ما يمكن تسميته اللعنة التي تطارد الشخصية العربية.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر