5 دقائق

بعد التقاعد

خالد الكمدة

بدت تلك الليلة كأنها لن تنتهي أبداً، ظلامها أحلك وهواؤها أعكر، لكنها حكماً مضت، كما يمضي كل شيء قاسٍ، وكل شيء جميل.. «أصبحنا وأصبح الملك لله»، ردّد يوسف بعد الأذان، وكان قد حسم أمره بأنه بغض النظر عن الظروف والتحديات، سيظل صامداً كشجرة الغاف التي لايزال يزورها منذ أن كان طفلاً، ورآها خلال عقود خمسة تقف شامخة في الشتاء والربيع والصيف، وتبقى كذلك في الخريف.

«أن تنتبه متأخراً خير من أن تبقى غافلاً، بانتظار ما سيأتي».

من حسب سلم، فكر يوسف، وتذكر أنه وجد الضوء في كل ما بدا له قاتماً قبل ذلك، وأنه عثر على منفذ في كل ما بدا له مصمتاً من تحديات، مادام خريف العمر آتياً لا محالة، وما دام التقاعد يطرق الأبواب، سيستقبله يوسف بصدر رحب وخطط معدة، ومشروعات تنشر اللون الأخضر في ما سيصفر من أيام عمره.

ليس التقاعد فقط توقفاً عن العمل، وتقلصاً في الدخل، وانحساراً في المميزات، كان هذا ما أخاف يوسف، كان الوجل من الفراغ أحد ضيوفه الثقلاء في الليالي الماضية، استشعاره لساعات تمضي بلا هدف، بلا إنجازات، بلا إضافات. أرّقته أيام سيراقب فيها زوجته وهي تستبدل أغطية الوسائد في الصباح، وتبخر الغرف في الضحى، وتستقبل ضيوفها قبيل الظهيرة، وتعد طعام الأسرة بُعَيْدها. أغمه تركه الاختياري لكل أنواع الرياضات، وترهل عضلاته بعد أن كان في مقتبل عمره عداءً ينافس في السباقات، ساءه هجره للمكتبة، آخر بطاقة عضوية كانت قبل 20 عاماً، بعدها هجر يوسف الكتب والمكتبات، واكتفى بسطور في الصحف، اجتمعت عليه كل همومه في دامس الليل، وأمده الفجر بعزم أكبر على احتوائها إن لم يكن قوياً بما يكفي لمواجهتها وتجاوزها.

أن تنتبه متأخراً خير من أن تبقى غافلاً بانتظار ما سيأتي، سيملأ يوسف أشهره المقبلة في البحث عن صداقاته القديمة، في تجديد بطاقات العضوية لما هو ممتع ومفيد في الحياة، في تذكر كل ما كان يرغب في القيام به ولم يجد له وقتاً.

ليتنا جميعاً كيوسف، نتعامل مع ما لا يمكن تغييره بصبر وحكمة، نبادر لتجاوز ما يمكن تجاوزه من تحدياتنا وتعزيز ثباتنا بدلاً من أن نستسلم لليأس، نضع لأنفسنا تصوراً ورؤية واضحين لما سيؤمن لنا الاستقرار النفسي بعد التقاعد،

KhaledAlKamda@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر