أبواب

أوكسجين الشعر

يوسف ضمرة

يبدو أحياناً أن كل ما يلزم المرء كي يكون شاعراً، هو شَعر مسترسل، ولحية غير مشذبة، وحقيبة تتدلى من الكتف، وركن هادئ في مقهى ترتاده النساء الجميلات، وبعد ذلك، لا بأس من تمزيق ديوان شعر لشاعر آخر أمام إحداهن، بدعوى تفاهته.

لست معنياً بسلوك الشعراء والكتاب والأدباء والفنانين، ولست مسؤولاً عن مظاهرهم وملابسهم وشَعرهم ونزواتهم، فهذه كلها تدخل في باب الحرية الشخصية، لكني فقط أنبه إلى أن هذا المظهر، وهذه النزوات وحدها لا تصنع من أي كان شاعراً.

كل من يقلد شاعراً أو فناناً يظل مجرد شخص يمتلك من مهارة الصنعة، ما يجعله يظن أنه يطاول قامة الشاعر الأصلي.


التغني بقاع المدينة، والحرص على إظهار الزهو بالانتساب إلى هذا القاع، لا يقدم ولا يؤخر في القصيدة، فالانتماء إلى قاع المدينة يكون جمالياً ومعرفياً أكثر منه موضوعياً.

هنالك في الأدب العربي، قديمه وحديثه، دائماً ظاهرة الشعراء الصعاليك، وهم أولئك الشعراء الذين وجدوا أنفسهم على هامش المجتمع، أو لفظهم المجتمع والأعراف الموروثة، لأنهم لم يخفوا ميولهم لتحدي تلك الأعراف (الثقافة) السائدة. هؤلاء الشعراء دفعهم رفضهم للسائد إلى عزلة اختيارية حيناً، وقسرية حيناً آخر، وليس غريباً والحال هذه أن تكون أشعارهم تؤكد هذا الرفض، وتعلن إخلاصها لمفاهيم جديدة. أما الشعراء الجدد، الذين يعتقدون أن الصعلكة في الشعر تتعين في المظهر والشكل الشخصي، مع الالتزام بالمفاهيم والأفكار والأعراف السائدة، فهم بالضرورة لم يفهموا شعر الصعاليك أو حيواتهم وأفكارهم، وبمعنى آخر، فإنهم ــ وإن اختلفت مظاهرهم وأشكالهم ــ لم يخطوا خطوة ملموسة نحو عالم الصعاليك، الذي لا يرتبط، كمعنى ودلالات، بزمن محدد.

لا يقتل الموهبة سوى التفكير في الآخر الصاعد، وكما قيل من قبل «إن المرء لا يشرب من النهر مرتين»، فإننا نقول دائما: إن العرب أنجبت أبا الطيب المتنبي واحداً متفرداً، وكذلك الحال مع الشنفرى ومحمود درويش، ولنا أن نتذكر أن شعراء الأطلال والمعلقات، كانوا أوفياء لثقافة القبيلة السائدة، وأبدع كل منهم معلقة خلّدها تاريخ الشعر والقراءة، كما أن محمود درويش كان من أكثر الرجال أناقة واهتماماً بمظهره، ولم تمنعه تلك الأناقة من قول شعر لم يأت بمثله أحد من قبل، ولن يأتي بمثله أحد من بعد، فكل من يقلد شاعراً أو فناناً يظل مجرد شخص يمتلك من مهارة الصنعة ما يجعله يظن أنه يطاول قامة الشاعر الأصلي.

مثل هؤلاء الشعراء، عليهم أن يقرأوا سير شعراء آخرين عبر التاريخ، فواحد مثل رامبو، كتب أجمل أشعاره بين السادسة عشرة والعشرين من عمره، لم يكن في الريف الفرنسي قد اطلع على إرث شعري كبير، وهو ما جعله يكتب ما يفكر فيه، وجعل شاعراً مثل «فرلين» يسأل عنه، ويدعوه إلى باريس. لقد حطم رامبو وبودلير شكل القصيدة المألوف والسائد، فكانت أشعارهما ثورية بالمعنى الموضوعي لا المجازي. وإذا كان بعض شعرائنا يمتلكون الموهبة ــ السحر الداخلي العميق ــ فإن من الظلم قتل تلك الموهبة بالجري وراء مظاهر متمايزة، تجذب انتباه الآخرين، بينما تذهب قصائدهم في اتجاهات أخرى.

بقي أن أشير إلى أن التغني بقاع المدينة، والحرص على إظهار الزهو بالانتساب إلى هذا القاع، لا يقدم ولا يؤخر في القصيدة، فالانتماء إلى قاع المدينة يكون جمالياً ومعرفياً أكثر منه موضوعياً. وعلى الرغم من أن درويش ربما لم يمسك مسدساً في حياته، إلا أن كثيراً من قصائده تمتلئ بلغة الرصاص، المشحونة بالتأثير.

لا أدعو إلى الفصل بين الشاعر وعالمه الشعري، وإنما إلى التخلي عن بعض ما يظنه البعض أوكسجيناً للشعر.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر