أبواب

«حياة معلقة» من بين الركام

يوسف ضمرة

أن تصل رواية من غزة إلى قائمة البوكر العربية القصيرة، فهذا في حد ذاته إنجاز تاريخي. صحيح أننا لم نقرأ الرواية بعد، لكن خروج رواية من بين الركام والدمار والجثث ورائحة الموت، لا يحدث في أي مكان. يلزمه بشر يحبون الحياة «إذا ما استطاعوا إليها سبيلا».

لا أحب أن تفوز الرواية من دون أن تستحق، فليست فلسطين جواز مرور للأعمال الهابطة، أما وقد وصلت «حياة معلقة» إلى القائمة المصغرة، من بين 180 رواية عربية، فهذا لم يكن، كما أعتقد، إلا بفنيات الرواية ذاتها، فليست هذه هي المرة الأولى التي تشارك روايات فلسطينية من الداخل، لكنها المرة الأولى للقائمة المصغرة، وهذا يعني أنها مرشحة للفوز بالجائزة كالروايات الخمس الأخريات، وتمتلك المقومات التي تؤهلها للفوز. وحتى لو لم تفز، فيكفي أنها ستترجم إلى الإنجليزية، وربما إلى لغات أخرى أيضاً.

على الكيان الصهيوني أن يدرك ــ وسيدرك ذلك آجلاً أم عاجلاً ــ أنه لن يستطيع محو هوية شعب ضاربة جذوره في أرض حميمة. لن تتمكن القوة العسكرية من التلاعب بالجينات الثقافية لشعب تمتد ثقافته عميقاً في التراب، وتطاول المجرات.

ليس الموضوع هنا ولادة روائي فلسطيني جديد، فهو ربما لم يكن جديداً إلا علينا نحن من يجد صعوبة في التواصل مع الأدب الفلسطيني في الداخل، بالنظر إلى تحكم سلطات الاحتلال في الماء والهواء في فلسطين. فنحن أمام حصار شعب طال عقوداً، لكنه يكتب الروايات والشعر والقصص، ويغني ويرقص، ويحلم، مثل سائر البشر على الأرض.

قبل أيام فاز الشاعر الفلسطيني خالد أبوخالد بجائزة القدس التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وبوصول هذه الرواية إلى هذه المرتبة، نستطيع القول بثقة: إن الأدب الفلسطيني يأبى إلا أن يدافع عن حق الفلسطينيين في الحياة «ونحن لم نحلم بحياة إلا كالحياة». وعلى الكيان الصهيوني أن يدرك ــ وسيدرك ذلك آجلاً أم عاجلاً ــ أنه لن يستطيع محو هوية شعب ضاربة جذوره في أرض حميمة. لن تتمكن القوة العسكرية من التلاعب بالجينات الثقافية لشعب تمتد ثقافته عميقاً في التراب، وتطاول المجرات. فليس «بعل» مجرد أسطورة مضت وانقضت، إنه كتلة راسخة في أساسات البنيان الثقافي الفلسطيني، وهو بقدرته على الخصب، مرر الشيفرة الجينية لعبدالرحيم محمود وماجد أبوشرار وغسان كنفاني وناجي العلي وعلي فودة وآخرين، لم يحسبوا حساباً للموت طالما كان ينطوي على إعادة إحياء الحياة.

المفارقة الجميلة هنا تكمن في التزامن بين جائزتين، جائزة «أورشليم» التي يمنحها الكيان الصهيوني كل عامين لكاتب عالمي، وبتغطية إعلامية مكثفة وحثيثة جداً، الغرض منها تكريس «أورشليم» ودولة «إسرائيل» وربطهما بشعوب الأرض من خلال كتاب تلك الشعوب، وجائزة البوكر التي وصلت رواية فلسطينية إلى قائمتها المصغرة، وتمتلك حظوظاً في الفوز بالجائزة، وسيتم نقلها إلى لغات غير عربية. هذه المفارقة تؤكد لكيان العدو قبل غيره، أن كل محاولاته لطمس الهوية الفلسطينية ستبوء بالفشل المدوّي، ذلك أن الهوية الفلسطينية ليست «مِزقا» من أقوام وشعوب أخرى. إنها بنية واحدة لم تُجزأ عبر التاريخ، على الرغم من مرور الغزاة والمستعمرين. هي القدس، وهي فلسطين، وهي بعل وعناة. والنفاق الذي يتمنطق به اللاهثون وراء جائزة أورشليم، سعياً للفوز بنوبل، لن يغير من الحقيقة التاريخية شيئاً. فلا ميلان كونديرا ولا نايبل ولا إسماعيل كاداريه أخيراً، قادرون بكل مجازهم وبلاغتهم وسمعتهم، على تهميش رواية خرجت من بين الركام في فلسطين، لتقول للعالم كله: أنا واحدة من السبل لمن يحبون الحياة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر