أبواب

عقدة العودة إلى المربع الأول

خليل قنديل

من يقرأ التاريخ العربي القديم منه والحديث سيُدهش من الحركات اللولبية للتاريخ العربي وعملية إصراره، عند كل مفصل تاريخي، على أن يلملم شظاياه بالطريقة التاريخية ذاتها كي يبدأ من جديد.

فنحن كعرب، وعند كل مفصل حضاري، نحاول أن نحك رؤوسنا بحثاً عن مخارج جديدة للتاريخ، والغريب أننا نقف عند النقطة ذاتها التي تسمح لنا بإعادة تدوير التاريخ وحركته، وإعادة ممارسة الاحتيالية ذاتها التي نمارسها على حركة التاريخ وتوجيه حركته، وها نحن في هذه المرحلة ونحن نرقب ملامح تاريخنا وهو يغرق في تفاصيل اللحظات الهاربة نكاد نجزم أننا نقف ببله عجيب أمام تاريخنا الذي بدأ ينقلب مع التغيرات الجديدة المقبلة على المنطقة من دون أية خبرة سابقة، مع أنه هو ذاته التاريخ الذي استقبلنا على بوابة العصر حين سقطت منّا بوصلة الاستدلال على التاريخ الحديث لحظة قدوم المتغيرات التي رافقت إطلالة وبناء عصر الدولة العربية المعاصرة.

«نقف ببله عجيب أمام تاريخنا الذي بدأ ينقلب مع التغيرات الجديدة المقبلة على المنطقة من دون أية خبرة سابقة، مع أنه هو ذاته التاريخ الذي استقبلنا على بوابة العصر حين سقطت منّا بوصلة الاستدلال على التاريخ الحديث».


«نحن كعرب، وعند كل مفصل حضاري، نحاول أن نحك رؤوسنا بحثاً عن مخارج جديدة للتاريخ».

إننا نقف الوقفة البلهاء ذاتها التي وقفناها مع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وطه حسين والعقاد، ونحن نراقب تصدع الدولة المجتمعية الغربية وانهيارها، وحلول التنظيمات الدينية والفكرية وهي تنهض من مهادها الغربي لترسم لنا الملامح المكسورة للحضارة الغربية ومحاولة رسم حدود الدولة الحديثة.

ونقف الوقفة الغبية ذاتها ونحن نستحضر تشكيلاتنا الأولى للدولة العربية المعاصرة، واحتمال مضغ التجريب الممل والقاهر لتعرجات التخبط في خلق الدولة الحديثة.

نفعل هذا وننسى قوتنا النائمة في تشكيل الدولة الحديثة المعاصرة، بعد خروجنا من تجربة الدولة الراشدة ودولة الخلافة العباسية والأموية والعثمانية، وإمكانية الاستفادة من خسائرنا في دولنا المتقوضة، ولا نفكر في استثمار ذاكرتنا الحضارية من جديد.

ولأن الأمر هكذا يحدث ترانا حضارياً نهرب إى السهل والممكن في صناعة دولتنا الحديثة، كي نعيد تقويض كل ما بنيناه كي نبدأ الحفر في ذاكرتنا الحضارية من جديد. وها نحن في زمن تفكك الجغرافيا العربية المعاصرة نحاول العودة إلى مربعنا الأول في تشييد الذاكرة، وبداية بناء مدننا الحديثة على أنقاض مدننا التي لاكها وبصقها الدهر.

إن العلاقة المواظبة التي تنشأ بين المواطن الطليعي والمعافى تجعله يحفظ مدنه الساقطة في ذاكرة التاريخ بماء العين وماء الذاكرة، ولا يقبل أن تلاك مدنه وجغرافيتها على هذا النحو المحزن.

نعم إننا في كل مرّة يعرض علينا فيها التاريخ أوراق اعتماده كي نجيز مدننا الجديدة والطازجة نرتبك ونحن نحاول فك شيفرة الذاكرة التي التهمتها زواريب التاريخ.

إن المدن العربية التي سدت حلق التاريخ تحتاج بالفعل إلى ذاكرة معدنية قادرة على جلبها واستدراجها إلى ذاكرتنا اليومية من جديد. وعليه فقد حق علينا التساؤل ونحن نحدق في هذه الشيفرة أن نبحث عن بغداد في قرطبة وعن المنسوخ من الإسكندرية في مدينة القاهرة القائمة حالياً، أو نبحث عن القاهرة في التمدد العمراني لبغداد، وعن مدينة سورية تغفو على أقدام مدينة من مدن إسبانيا.

إن الركام العمراني الذي خلّفه العربي يستحق منا أن نمنحه النظرة الثاقبة القادرة على مسح التراب الدهري عن مدننا، كي نعيد تأهيلها من جديد دون ارتباك ودون تلك الارتعاشة التاريخية الجبانة في الإقدام على تشكيل وبناء التاريخ من جديد.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر