أبواب

التاريخ مخاتلاً!

خليل قنديل

من يُعمق نظراته في أفقنا السياسي والاجتماعي العربي هذه الأيام سيكتشف أن التاريخ الذي قدسناه قد فقد لياقته تماماً، وأصبح تاريخاً صبيانياً بامتياز، وأنه بالفعل قد بدأ يفقد رصانته وتلك التكشيرة الدهرية التي تظل تميز حركة التاريخ، وأنه رمى ببوصلته القيادية نحو الصبينة، وتركها تذرع تشعبات طرق التاريخ بنوع من الشذوذ المتعمد، وتخلى بالفعل عن دروبه الأصيلة تاركاً كل قيمنا الأصيلة التي كانت تمسك بيد التاريخ قد ترجرجت، وأخذت تقوده نحو المناطق الشهيرة بانزلاقاتها الزلزالية، وبدا كل شيء نلقاه في هذا التاريخ يبدو وكأنه بحاجة إلى مراجعتنا من جديد!

«في زمن تسلط ثقافة الصورة وحضورها في كل المراجع، أصبح من الممكن للتاريخ أن يتراجع ويعيد نظرته في تشكيل ذوقنا الماضوي العام».

«يبدو أننا نسينا في زحمة المقترحات العاجلة أن التاريخ الذي تم العبث به على هذا النحو سيجيء اليوم الذي سينفجر فيها أمامنا؛ وحينها وعلى الأغلب لن ينفع الندم، ولن يفيدنا فعل التحسّر على تاريخ كان يضج بالعافية».

ففي البدء أصبح التاريخ يتحول أمامنا وضمن انقلابات أمامنا إلى تاريخ رخو ومترجرج، وهو يرسم حادثته بنوع من العبث الصبياني الذي يحتمل كل تأويل! وبناءً عليه أصبح شكل الحادثة التاريخية يحتمل الختل والتزوير، وأصبح الواحد منّا وهو يتابع الحادثة التي عاش تفاصيلها تحتمل التزوير والإضافة والتعديل؛ بما يتناسب مع الحمق السائد.

وفي زمن تسلط ثقافة الصورة وحضورها في كل المراجع أصبح من الممكن للتاريخ أن يتراجع ويعيد نظرته في تشكيل ذوقنا الماضوي العام، والغريب أننا بدأنا نمتلك الدربة على تغيير زاوية المشاهدة وذلك بما يتلاءم مع المُقترح السردي الجديد للتاريخ، بحيث نقبل كل الانقلابات التزويرية للحادثة التاريخية من دون أن يرف لنا جفن!

والتاريخ الذي كان يربض في أرواحنا في منطقة سرمدية ومقدسة صار بالإمكان قلبه على وجهه، والعبث بكل مكنوناته التي كانت تصل حد الممنوع صارت متاحة وقابلة للنسف والتغيير، والمهم أن حرّاس التاريخ الذين كانوا يتناوبون في المنع لكل الخروقات تحولوا، وتحت إغراءات متسارعة، إلى ترك الحبل على الغارب ليتشكل السرد التاريخي مع كل ما يتناسب مع اقتراحاتنا المريضة، ولعله ليس من الغريب أن يسرد تاريخنا المعجل حادثتنا التاريخية بنوع من السرد المخيالي الذي لا يخلو من الصبيانية.

وقد تدرج هذا العبث بالنص التاريخي الأصيل حتى وصل الى أدق ما يميز قناعاتنا كي يعبث بها ويُعيد تشكيلها بفوضى جديدة. والتاريخ الذي كان يقيم في الصورة المعلقة على الجدار أخذ يتململ، ومن ثم ينتفض ليعيد تشكيل رؤاه بحسب الرغبة السائدة في تشكيل حادثة التاريخ.

إن المسافة التي قطعناها بعيداً عن دروبنا التاريخية بدت وكأنها ترغب في إعادتنا إلى المربع الأول الذي يطفح بالسذاجة والهيلمان السائد. وظل المطلوب منا هو المصادقة على النسخة الجديدة من تاريخنا الجديد. ولا غرابة في أن يتحول القبول إلى أيديولوجية جديدة ستسود بالتأكيد بقوة الزجر والمنع!

وعودة إلى المفاهيم الانقلابية التي عاشها تاريخنا؛ فعلى الأرجح أن يعاود العربي العمل على تقزيم المفاهيم التي كانت تمنعه من الموافقة على سردنا الماضوي والتاريخي، وإعادة الاعتبار لكل مقترح جديد. ومن يحدق في مساراتنا التاريخية بشكل مُعمق وجاد سيكتشف اننا بدأنا بالتكيف ضمن هذا النهج، وقد فعلنا هذا ونحن كعادتنا نراهن على ذاكرة التاريخ العربي التي صارت هشة تماماً. وباتت تتقبل كل المتغيرات المقترحة عليه.

ولعل أثر مثل هذه التغيرات سيكون واضحاً في كل المجالات التي عبرنا فيه تاريخنا، وكل المناطق التي اعتقدنا أنها خالية من الألغام الموقوتة. وكان الله بالعون.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر