كل جمعة

مظاهرة باريس: البراءة أم التضليل؟

باسل رفايعة

لماذا تظاهر العالم في باريس من أجل مقتل 12 صحافياً في جريمة إرهابية، ضد صحيفة أساءت للإسلام، ولم يحتشد زعماؤه وشعوبه للتضامن مع ضحايا الإرهاب في سورية والعراق وفلسطين والصومال وباكستان؟

سؤال نفهمه نحن، ونعرف حقيقة دوافعه في الخداع، واللعب على المتناقضات، ومحاولة صناعة المفارقة، والقفز إلى خلاصات وأحكام متخصصة في التذاكي والتضليل. السؤال حرّكه مؤيدون صريحون للمجزرة البشعة في صحيفة «شارلي إيبدو»، وهم يجادلون بأن اليهود والمسيحيين، الذين تعرضت لهم الصحيفة نفسها بكثير من الرسوم والسخرية، لجأوا سابقاً إلى القوانين الفرنسية لملاحقة الصحيفة قضائياً، لكنهم اصطدموا غالباً بفهم الدستور والقوانين الفرنسية لحرية التعبير، وحقوق النشر، وعليه ثمة حلول أخرى.

التجاوب مع الاستفزاز بالرصاص أضاع حقّاً، ورسّخ باطلاً في صلية رشاش واحدة.

الأخوان الجزائريان قررا أن على الرشاش حسم الخلاف، فأنجزا ثأراً دموياً، من دون أدنى مبالاة لما يمكن الاستفادة منه من مبادئ الجمهورية الفرنسية، التي سمحت لهما بأن يولدا ويكبرا ويتعلما في مجتمع متمدن. ومن أجل تخليدهما بطليْن لا إرهابييْن، وجد الشابان من يشكرهما على صفع الاستعمار الفرنسي، والثأر لمليون شهيد في الجزائر التي تحررت عام 1962.

حسناً، لنتذكر زيارة ملك ملوك إفريقيا، معمر القذافي، إلى فرنسا، ولقاءه رئيسها نيكولا ساركوزي في 2007. فقد كان أول مطلب لزعيم الجماهيرية العظمى أن يسارع مضيفه إلى «لجم» الصحافة الفرنسية، ومنعها من انتقاده شخصياً، ومن الخوض في سجل حقوق الإنسان في ليبيا. طبعاً لم تجدِ دبلوماسية ساركوزي شيئاً في محاولة إقناع القذافي بأنه لا يمتلك صلاحية التدخل في عمل الصحافة، وأن الحل الوحيد المتاح هو اللجوء للقضاء. أغلب الظن أن القذافي لم يفهم معنى كلمة «القضاء» من حيث هي، والمؤكد أنه لم يصدق كيف أن رئيس دولة لا يملك حق سجن صحافي، أو إغلاق صحيفة، وتحويل مقرها إلى مكتبة لبيع الكتاب الأخضر حصرياً.

كثيرون ذهبوا إلى محاكاة القذافي في تعاملهم مع جريمة باريس، قبل مظاهرتها. فيما كانت كل الخيارات العملية في أزمة «الرسوم المسيئة» أفضل وأجدى. فالقانون الفرنسي يتيح الاعتصام والتظاهر واللجوء للقضاء، وهناك وسائل مثل مقاطعة الصحيفة، والرد على الرسوم بكتابات مركزة، تؤدي إلى استقطاب الرأي العام إلى قضايا المسلمين، بهدوء، ووسائل متحضرة، غير أن التجاوب مع الاستفزاز بالرصاص أضاع حقّاً، ورسّخ باطلاً في صلية رشاش واحدة.

تظاهر العالم في باريس ضدّ جريمة ثأرية، أوقعت المسلمين مجدداً في دائرة الاتهام التقليدية، ومن حضر من العرب والمسلمين سعى إلى التأكيد بأن الإرهابيين ليسوا منا، وإن كانوا مسلمين. هذا سلوك تضامني، ونتائجه مفيدة، ولا يمكن تفسيره بأن المشاركين يوافقون على الإساءة للإسلام برسوم كاريكاتورية أو غيرها، فلا أحد يريد استفزاز المشاعر الدينية، وتحويلها غضباً قاتلاً، أكثر مما هي عليه الآن من دموية وسوء منقلب.

الحضور العربي والإسلامي في باريس كان إعلاناً واجباً للبراءة من الإرهاب الذي يرتكبه عرب ومسلمون، ومطالبته بالتظاهر ضد إرهاب الدول العظمى وإسرائيل وبشار الأسد محاولة للتذاكي على الواقع ولعبة الأمم، على الرغم من أن المظاهرات التي شهدتها باريس والعواصم الأوروبية ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، العام الماضي، فاقت عدداً وزخماً مثيلاتها في العالم الإسلامي. مثلما نذكر أن فرنسا ودولاً أوروبية كانت الأكثر دعماً للاعتراف بالدولة الفلسطينية.

إدانة جريمة باريس، واستنكار الإساءة للإسلام، كان يمكن أن يشكلا معادلة جيدة لتفاعل الرأي العام العربي، وجلب المنافع للإسلام وقضاياه، لكن المؤسف المتجدد أن كثيرين فضلوا طريق التنظيمات الإرهابية وأنصارها المختبئين في الإسلام السياسي، في العبث بعواطف العامّة واستثمار الإحباط والآفاق المغلقة.

brafayh@ey.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر