أبواب

سيرة الجنرال «ثلج»!

خليل قنديل

ثلاثة أيام وأنا برسم الاعتقال البيتي بسبب العاصفة الثلجية التي هبّت على الأردن وبلاد الشام، ثلاثة أيام اشتقت فيها للسعة أشعة الشمس، وذاك الوضوح في الإضاءة الربانية، وبقيت خلالها أجاور نوافذ بيتي متتبعاً للثلج الذي لم يتوقف عن إبراز مفاتنه البيضاء، وتلك البرودة التي يتركها في اليدين وبقية الأطراف، وأعرف أني فعلت ذلك بنوع من التعمّد الصبياني الذي يفعله الثلج بالذاكرة، حيث يقتادك الهطل الثلجي إلى ذاك المشهد الطفولي الذي اكتنزته ذاكرتك الطفولية عن أول مشهد للثلج، حيث البيت المتسع الأرجاء والجدّة التي تجلس في قاع الغرفة الكبيرة تحمدل وتبسمل وهي تحرس العائلة بذكر الله وتمجيد سلطة الخلق، وحيث الأم النحيلة التي تجوب البيت بحثاً عن وجبة غداء دسمة تسكت شيطنة الصغار!

«في الخمسينات لم يكن الثلج يمهد لحضوره عبر النشرات الجوية وتوقع دائرة الأرصاد، بل كان الثلج يباغت المدن والقرى والسهول والوديان بهطل له علاقة بموسيقى الأطفال ناعماً ورقيقاً كأنه يندف حبيباته من خلال كاتم للصوت، لقد كان حضوره يبدو وكأنه رسالة سرية من السماء تجعل الأبدان تقشعر من حنو الخالق».

وفي الخمسينات لم يكن الثلج يمهد لحضوره عبر النشرات الجوية وتوقع دائرة الأرصاد، بل كان الثلج يباغت المدن والقرى والسهول والوديان بهطل له علاقة بموسيقى الأطفال ناعماً ورقيقاً كأنه يندف حبيباته من خلال كاتم للصوت، لقد كان حضوره يبدو وكأنه رسالة سرية من السماء تجعل الأبدان تقشعر من حنو الخالق.

وقد كان لحلول الثلج إيقاعه الخاص وضجته الخاصة أيضاً، فقد كان للحضور المفاجئ للثلج القدرة على إيقاظ الرغبة في الخروج من البيت، والتخلي عن تلك الصرامة الاجتماعية التي كانت تطبع ملامحنا بالجلافة الاجتماعية التي ليست مبررة! وقد كان هذا الخروج يسمح لصبايا الحارة بالخروج على السائد، واحتلال أسطح البيوت ورمي المارّة بكتل ثلجيّة كنّ يتفنن بتكويرها حتى تتصلب، ومن ثم ضربها في ظهر أو رأس أي عابر طريق.

كان ثلجاً عائلياً ـــ إن جاز التعبير ـــ فهو ما إن يتسلل عبر خيوط الفجر وتختلط زرقة الفجر ببياضه حتى تنهض الروح الشقيّة فينا، وهي تستحث كل الأعمار على الاندغام في الطراوة الاجتماعية التي يثيرها الثلج، والعمل على استدراج عافية اللعب بالسرعة الممكنة، وقبل أن تحضر أشعة الشمس القادرة على إذابته وإعادة المكان إلى جغرافيته وألوانه الأولى.

ولأن عمر الثلج قصير ولا يحتمل الإطالة المناخية كنّا نحلم بأن يستمر الجنرال ثلج بحضوره بتلك البزة الثلجية والبيضاء.

وقد كانت لهيمنة الثلج في الحضور قسوة لينة تسمح له بالتسلل إلى الطرقات والأزقة الترابية التي كانت تزدهر وتزدهي لحضوره الأبيض بأن تأخذ الأماكن جميعها لون الظل المحبب الذي يفضحه اللون الأبيض، بحيث يتحوّل الأبيض الى ما يُشبه اللون الرمادي ذاك الذي يجاور في العادة لون الحليب.

أما البيوت ذات الأسطح الواطئة فقد كانت تعاني هذا الإقبال العائلي عليها بهذه الكثافة غير المتوقعة، ولأن عمر الثلج قصير ولا يحتمل الإطالة المناخية كنّا نحلم بأن يستمر الجنرال ثلج بحضوره الأبيض والملح، لكنه كان يباغتنا بالاختفاء والذوبان بالطريقة ذاتها التي حضر فيها. وربما هذا ما يجلعلنا حين يقبل علينا نعانقه ونطيل العناق، ربما وهكذا نبدو وكأنا نسينا الأماكن والجغرافيا الممعنة في دهريتها كيف عبرها هذا الجنرال، وأخذ من كل مكان هبة هواء أو مشهد، وقام بتحويلهما إلى نياشين باتت تزين بزته البيضاء!

وأنا في مثل هذه الأيام أشفق كثيراً على الجنرال ثلج، وعلى بزته البيضاء وهو يُعامل كعدو غاشم يحتاج إلى كل هذه الاحتياطات. كما أشفق على الأسماء التي صار الجنرال ثلج ينتحلها كي يعبر أمكنتنا بأمان، ودون أي شغب، بحيث صار اسم «المنخفض» وكأنه جواز السفر الذي وحده يمنحه حق العبور!

 

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر