أبواب

همس الكاتب

يوسف ضمرة

غالباً ما تبدو مصائر الشخوص الحكائية، بعيدة عن توقعاتهم ـ أو لنقل ـ مغايرة لما يتوقعون. وغالباً أيضاً ما تبدو صادمة، ومرتبطة بأيادي غيرهم، حتى في حالات الانتحار التي قد تبدو قراراً ذاتياً تماماً!

ربما يريد مختلقو الحكايات والقصص الإيحاء لنا بأن أيادي الآخرين هي أيادي القدر، بشكل أو بآخر. فرجال غسان كنفاني كانوا يرغبون في الوصول إلى الكويت، لكن «خطأ» ما؛ يداً خفية تدخلت لتقف في وجه تلك الرغبة والإرادة. كثير من النقاد أشاروا إلى خصاء «أبي الخيزران» بوصفه قيمة القيادة، التي لن تتمكن في حال كهذه من إيصال الناس إلى غاياتهم. ولكن قراءة كهذه لا تأخذ في الاعتبار، أن خيار الرجال في الخزان أيضاً لم يكن صحيحاً في السياق الموضوعي للقضية الفلسطينية. فماذا لو لم يكن أبوالخيزران كذلك؟ وماذا لو دق الرجال الخزان؟ سيصلون إلى غايتهم، وتنتهي مغامرة حكائية تصلح للتسلية قبل النوم.

لقد التقت أكثر من يد لتحول دون تحقيق حلم الرجال في الشمس؛ موظفو الحدود، وتلكؤهم في ختم جواز السفر، والحرارة العالية، والزمن. ربما أراد غسان أن يؤكد خطأ الحلم، ولكن وسائله في ذلك كانت «قدرية».. مجموعة من الأيادي «المصادفات» التي تلعب دوراً كبيراً في المآسي، منذ الإغريق.

إن قراءة النص بدلالاته المباشرة والصارخة، هي استجابة لوعي الكاتب نفسه. وهو في أحيان كثيرة يكون وعياً مخاتلاً، لئلا نقول زائفاً، في لحظة الكتابة.

وقد يكون محمود درويش أكثر وضوحاً في «لاعب النرد»، التي يعيد كل ما فيها من تفاصيل إلى مصادفات حياتية عادية في طبيعتها، لكن أثرها يكون مدوياً؛ فخطوة سابقة له كانت كافية لأن يخطئه القناص، وخطوة متأخرة أنقذته من التفجير، واستغراقه في رواية حب ليلة الرحلة المدرسية حال دون يقظته في موعد الرحلة التي قتل التلاميذ فيها جراء حادث أصاب الحافلة. حسناً، فماذا لو لم يمر الراعي «مصادفة» في لحظة ما، قرب الرضيع «أوديب»؟ ولو لم يرَ «ياغو» منديل «ديدمونة» ـ زوجة عطيل ـ في يد «إميليا» زوجته هو؟ ولو لم تمت «حنه» ـ زوجة إلياس نخلة ـ أثناء الولادة، في «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبدالرحمن منيف؟ وليست قوة الأشقاء وسكاكينهم كلها قادرة على قتل «سانتياغو نصار» فيما لو همس أحدهم في أذنه بالمكيدة ـ الكمين ـ الذي نصبه الإخوة في انتظار عودته إلى المنزل. أي إن كلمة واحدة كانت تتفوق على كل ذلك الحشد من الحقد والخناجر والقوة البدنية والرغبة في محو العار الذي ألحقه نصار بهم! والشواهد كثيرة لا يمكن الإحاطة بها كلها. ولكن هذا لا يمنعنا من الإقرار بأن هذه قراءة ليست يقينية، وإن كان ثمة الكثير مما يسندها في نصوص عدة.

وإذا كان ثمة شيء من الصحة في هذه القراءة، فإن علينا أن نتساءل إن كان القلق الوجودي هو المحرك الرئيس للكتابة! الحياة والموت ومصائر البشر وكل ما اعتبره المرء لغزاً في الحياة، بدءاً من الخلق، وليس انتهاءً بما وراء الموت.

إن قراءة النص بدلالاته المباشرة والصارخة، هي استجابة لوعي الكاتب نفسه. وهو في أحيان كثيرة يكون وعياً مخاتلاً، لئلا نقول زائفاً، في لحظة الكتابة. فكثير من الكتاب يريدون تأكيد مفاهيم القارئ وأفكاره ومواقفه، لكن في الكاتب صوتاً آخر يهمس بهدوء في ثنايا ضجيج النص، وعلينا كقراء وكنقاد أن نلتقط ذلك الهمس بأذن خبيرة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر