أبواب

شكسبير علامتنا الجديدة

يوسف ضمرة

لن تكون ناقداً من دون المرور بشكسبير، مقولة قد تبدو عادية للبعض، فلا يعقل عند كثيرين أن نهمل آداب العالم كله، ونجعل من آثار شكسبير طريقاً معبداً للنقد والنقاد. اللافت هو أنك حين تقرأ شكسبير، تفاجأ بما قد تظنه عميقاً غير قابل لسبر أغواره، وبما تظنه سطحياً لا يستحق هذه الضجة كلها، فلماذا يثير شكسبير هذه الآراء المتباينة كلها؟

لماذا يكون الفن أقوى من الواقع أحياناً؟ أو لماذا يصبح أكثر حقيقية من التاريخ والحقيقة الموضوعية نفسها؟

اللافت هو أنك حين تقرأ شكسبير، تفاجأ بما قد تظنه عميقاً غير قابل لسبر أغواره، وبما تظنه سطحياً لا يستحق هذه الضجة كلها
.

قبل يومين وقعت بين يدي ترجمة جديدة لهاملت وتاجر البندقية، انحزت إلى هاملت بالطبع، أول ما صدمني ــ على الرغم من أنني أقرأ المسرحية ربما للمرة الرابعة ــ هو أن شخوص المسرحية كلها من الدنمارك، وأن الوقائع كلها تحدث في قلعة في إحدى جزر الدنمارك الشهيرة، التي أصبحت تدعى اليوم جزيرة شكسبير. بالطبع فإن هذا ليس جديداً على شكسبير الذي كتب عن إيطاليا والنرويج وإنجلترا والمغرب، فالجديد بالنسبة لي هو ما قرأته في مقدمة الطبعة العربية الجديدة، من أن هاملت حكاية شعبية دنماركية، دماً ولحماً وعظماً، وهو ما يقود إلى أسئلة كثيرة، لا تتعلق بهاملت فحسب، ولا بشكسبير كله أيضاً.

فإذا كانت شخصية هاملت شخصية شعبية معروفة ومروية ومحفوظة في تاريخ الدنمارك، فلا شيء يمنعنا من الظن أن شخصيات شكسبير ربما تكون شبيهة بهاملت، أو ربما تكون أكثر تاريخانية منها، وهنا نعود إلى الموضوع الذي سبق أن أشرنا إليه من قبل، وهو موضوع «العوالم الممكنة» وأومبيرتو إيكو؛ أي إننا نعود إلى الحقيقية التي يكتسبها الفن والأدب.

أخبرني الدكتور عادل الأسطة قبل أيام أن قصة رجال في الشمس هي قصة حقيقية، لكن الرجال فيها وصلوا إلى الكويت، بينما قتلهم غسان كنفاني في روايته. وكنت سمعت بشيء من هذا من قبل، ولم أتوقف عنده إلا أخيراً، حين أخذ هذا الموضوع يلح على خاطري بين حين وآخر، خصوصاً ذاك السؤال الذي ما انفك يبزغ كلما فكرت في الأمر، وهو: لماذا يكون الفن أقوى من الواقع أحياناً؟ أو لماذا يصبح أكثر حقيقية من التاريخ والحقيقة الموضوعية نفسها؟

طرحت السؤال على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي، فجاءني رد من الصديق فريد البرغوثي، يقول «إن الواقعة الحقيقية حجر، والواقعة الأدبية منحوتة جميلة»، وإذا ما أخذت بهذا التوضيح أو التأويل، فإنني مضطر للموافقة على أن من حق الكاتب أو الفنان أن يعيد صياغة الواقعة بالشكل الذي يراه مناسباً لرؤيته. حسناً، فهل تختلف واقعة تاريخية حين يتناولها أكثر من كاتب؟ الإجابة إيجابية قطعاً. سنطرح السؤال على نحو مغاير: ماذا لو طلبنا من عدد من الكتاب أن يكتبوا عن الغيرة؟ عن الانتقام؟ عن الحماقة؟ ومن دون أن نطلب، فنحن نعرف أن كتاباً كثيرين تناولوا هذه الموضوعات، لكن واحداً فقط هو من كتب «مدام بوفاري»، وواحداً فقط هو من كتب «ميديا» التي قتلت أطفالها للانتقام من زوجها، وواحداً فقط هو من كتب «عطيل»، ولو أردنا أن نشير إلى «الحماقة» الآن، فلن نجد سوى أثر أدبي نستشهد به «مدام بوفاري»، وكذلك الحال في الانتقام، فإن «ميديا» تظل أبرز الشواهد التي يمكن للبشر أن يرفعوها على أسنة الأقلام، كما تقف «عطيل» شاهداً صارخاً على الغيرة القاتلة.

لنقل إذاً إن الموضوع حجر، وإن الفن منحوتة جميلة، حتى لو كانت الملامح شريرة أو شديدة القبح.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر