أبواب

السرعة والقراءة.. وهْم الكسالى

يوسف ضمرة

ليس جديداً الحديث عن أزمة الكتابة والقراءة في العالم العربي، لكن الجديد هو ما طرأ على هذه الأزمة من عوامل إضافية، أثارت مزيداً من القلق لدى البعض، ومزيداً من التفاؤل لدى البعض الآخر.

بداية علينا الإقرار بأن محدودية القراءة ليست أمراً طارئاً على المجتمعات العربية، وإن كنا نظن ذلك من قبل. بل يمكن القول إن منسوب القراءة ارتفع أكثر بكثير عما كان عليه قبل استقلال الدول العربية، حين كانت الأمية مهيمنة على عالمنا ومجتمعاتنا. ولعب انتشار المدارس والجامعات، في ما بعد، دوراً عظيماً في توسيع رقعة القراءة، لكن هذه الرقعة كانت على الدوام أضيق من مساحات أخرى.

محدودية القراءة ليست أمراً طارئاً على المجتمعات العربية، وإن كنا نظن ذلك من قبل. بل يمكن القول إن منسوب القراءة ارتفع أكثر بكثير عما كان عليه قبل استقلال الدول العربية، حين كانت الأمية مهيمنة على عالمنا ومجتمعاتنا.

كان لاتساع مساحة الطبقة الوسطى في العالم العربي، دور كبير في نشر القراءة، وأسهمت حركات التحرر العالمية والعربية في هذا الدور، ولعبت حركة الترجمة إلى اللغة العربية دورها في تعظيم القراءة والارتفاع بقيمتها، إلى أن انقضّت العولمة على رؤوسنا، وتعاظم مفهوم الدولة «القُطرية» ما ضيق الاهتمام بالقضايا الكبرى، وروّج للحلم الفردي وتعظيم مكاسبه.

ولعبت التكنولوجيا دورها البارز في الحصول على المعلومة من جهة، وفي اختزال القراءة في العثور على معلومة أو خبر، وهو الأمر الذي جاء على حساب الأدب أولاً وأخيراً.

فسهولة العثور على موجز لرواية ما، بدت للكثيرين كافية أو بديلاً ملائماً عن القراءة الكلاسيكية، بالنظر إلى ما توفره هذه الحال من وقت وجهد نحن في حاجة إليهما طالما استقر لدينا أننا أبناء عصر السرعة. واللافت هو أننا بنظرة دقيقة نكتشف أن هذه السرعة ليست معنية بنا. فهي تخص أصحاب الأعمال والشركات العابرة للقارات والقوميات والهويات، وتخص موظفيها ممن يُدعون ذوي الياقات البيض. أما أغلبية الناس في مجتمعاتنا فهي تعيش على هامش التكنولوجيا، أو تقتات على فتات هذه التكنولوجيا، كالشبكة العنكبوتية والهواتف النقالة الذكية والغبية على حد سواء. فبنظرة متأنية، ندرك أن السرعة التي يتحدث عنها البعض، لم تصبح محوراً أساسياً من محاور حياتنا اليومية، وبالتالي لا نجد هذا العامل سبباً في تراجع القراءة الكلاسيكية، أعني قراءة الكتب الأدبية والمجلات الثقافية. لكن السبب الحقيقي كما يبدو لنا، يتعين في تغير بعض المفاهيم والأفكار، فقد تراجعت جماليات القراءة لصالح الحصول على المعلومة، وتراجعت قيمة الشخوص الروائية والقصصية ووقائعها لصالح أخبار النجوم التي أصبحت متاحة بوفرة لا مثيل لها، مع ازدياد أعداد متصفحي الشبكة العنكبوتية، وتراجعت الأسئلة التي يثيرها الأدب لصالح أسئلة ميتافيزيقية، أسهم في نشرها عدد هائل من القنوات التلفزيونية التي تثير بعض المسائل الصغيرة، لتفتح بعدها باباً للتساؤلات التي لا تنتهي بالنظر إلى غرابتها حيناً، وعدم الحصول على إجابات شافية حيناً آخر، واختلاف الإجابات حيناً ثالثاً بين فضائية وأخرى.

هكذا بدأ الاهتمام بالأدب ينحصر في بعض التظاهرات، كمعارض الكتب على سبيل المثال. وحتى هذه ليست بريئة تماماً، طالما كانت دور النشر تضع في اعتبارها أولاً وأخيراً مسألة الربح، أما الندوات والمهرجانات الأدبية فقد أصبحت مقصورة على أصحاب الشأن من الكتاب والأدباء، وبعض المهتمين من طلبة الدراسات العليا.

لا أحد ينكر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي نمر بها، ولكنها لا تشكل عائقاً بالمعنى المطلق، أمام توسيع هامش القراءة. وربما يتحمل أساتذة الجامعات دوراً كبيراً في هذا السياق، لتعويض هذا الانحسار المريب في القراءة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر