كل جمعة
ليسوا كفّاراً..
لا نرى الآخر حين نكفّره، لا نراه، من حيث الرؤية، إبصاراً وفهماً. نرى أنفسنا فقط في مساحة محدودة، ومغلقة، لا نوافذ فيها تطل على الأفق، ولا هواء يصلح للشهيق والزفير والهدوء. نفكر بغضب، وندافع بغضب، ونتهيأ دائماً لحرب مفترضة.
كلّ منْ يرى غير ما نرى كافر، كلّ دين غير ديننا كفرٌ مبين. نكفّر الأديان، والأفكار، والعلوم، والفنون، والبشر، وفيما يعيش العالم «الكافر» في مركز الابتكار والفعل الإنساني الخلاق، وفيما نستهلك منجزه الحضاري، نصرّ نحن على الحياة في الهامش، أو إطالة النظر في تلك الدائرة الضيقة من الخوف والإنكار والفشل.
«ليسوا كفاراً يستحقون القتل، ولسنا مؤهلين للأحكام والعقوبات. الاعتراف يقطع مسافة بعيدة في الوعي، والإنكار حبل مشدود إلى الخديعة، ونحن أحوج ما نكون إلى صحوة في العقول والمجتمعات والأفكار». |
كأنها رياح سامة تلك التي تعصف بعقولنا منذ قرون. لا نعرف ما نريد، ولا نريد أن نستدل على طريق تضعنا في طرق الآخرين، لنمشي معاً، وننجو معاً. نعيش الآن أسوأ انحدار نحو الهاوية، ولا نرى له سبباً سوى العالم الكافر المتربص بنا. هو سبب مكوثنا الطويل في الظل، هو سبب هزائمنا، هو من لا يفعل شيئاً على هذه الأرض سوى التآمر على مصيرنا الذي نفعل كل شيء، لئلا يكون مصيراً لائقاً بأمة كانت لها حضارتها وعلومها ومكانتها، حينما تواضعت للآخرين وقبلت اختلافهم، ورفضت أن تكون مثل تلك السنبلة الفارغة المهووسة بالغرور.
نعرف جميعاً أن التكفير الذي ابتدعناه وحرسناه وربّيناه في عقول أجيالنا، هو حيلة من لا حيلة له، فهو لا يجدي شيئاً، ولا يفهمه العالم إلا في سياق الانغلاق والعجز. فالغرب الذي كفرناه لأنه يعتنق المسيحية يتفوق علينا قروناً حضارية، ولا جديد في التذكير بتبعيتنا له، وبأننا نعتمد عليه تماماً في استهلاك ما أبدع واكتشف واخترع، بل ونحاربه بذلك. المفارقة المبكية أن بعضنا يجرؤ على وصف إسحق نيوتن وألبرت آينشتين ولويس باستور بـ«الكفار»، ولا يتردد في اعتبار البغدادي والزرقاوي والظواهري «مجاهدين» مستمتعاً بأقصى حدود الجهل والاستعلاء.
نعرف جيداً كل ذلك، ولكنها بوصلة منحرفة في الأذهان، وهي دائماً عمياء، لا تأخذنا إلى أي جهة. نُدرّس أولادنا في المدارس والجامعات أصول التكفير ومناهجه وثقافته، ننفق أموالاً وجهوداً على تدريس الكراهية. لدينا مدارس وجامعات عربية تعتمد على أساتذة أجانب، يدرسون بناتنا وأولادنا العلوم والطب والهندسة، ثم لا نجد حرجاً في تذكيرهم بأن أساتذتهم «كفار» وأنهم سيذهبون حكماً وحتماً إلى نار جهنم.
لم نوفر أحداً.. حتى المسيحيين العرب: المناذرة والغساسنة والأقباط وأحفادهم الذين تشاركنا معهم الأرض والهواء والتاريخ والإنجازات والحروب ضد أعداء الماضي، لايزال كثير منا يكفرهم، حتى باتت شعارات التسامح، ومؤتمرات التعايش، لا معنى لها، مادام التكفيريون هم الذين يضعون المناهج، ويعتلون المنابر، ويتسيّدون الفضاء الافتراضي.
العالم يتسع للمليارات من البشر، ولآلاف الأديان والمذاهب والأفكار، يتسع لنا ولغيرنا، غيرنا هو الأقوى، وحين يحرص على تعميق هزيمتنا، فذلك لأننا نكرهه ونرفضه ونكفره، وحين يتراجع عن صراع الحضارات، لمصلحة تحاورها وتكاملها، فهو لا يقصدنا نحن، إنه يعني الأمم التي تعترف بالأنداد، وتتخلى عن عقد التاريخ، وعقم الثقافة.
ليسوا كفاراً يستحقون القتل، ولسنا مؤهلين للأحكام والعقوبات، الاعتراف يقطع مسافة بعيدة في الوعي، والإنكار حبل مشدود إلى الخديعة، ونحن أحوج ما نكون إلى صحوة في العقول والمجتمعات والأفكار. ليسوا كفاراً هؤلاء الذين نعيش معهم تحت شمس واحدة، تشرق علينا وعليهم، فثمة من يقرأ ضوءها، ويصحو، وثمة من يصرّ على انتظار الغروب، لينام ليله الطويل..
brafayh@ey.ae
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .