أبواب

مكافحة العجز

يوسف ضمرة

في نظرة عابرة إلى الأعمال الأدبية العظيمة عبر التاريخ، يلوح الموت قاسماً مشتركاً أعظم بين هذه الأعمال، لكن اللافت أكثر هو السؤال الآخر الحي: ماذا كانت هذه الشخوص الفنية لتفعل لو لم تمت؟

في الأفلام الرديئة يقوم الكاتب ومخرج نصه بالتغلب على صعاب الحياة كلها خلال مشهد مفاجئ ومن دون تبرير مقنع، ومهمة هذه الأفلام في الدرجة الأولى هي إرضاء المتفرجين من خلال تحقيق رغباتهم، وإرضاء المتفرجين هو ما يستوجب إعادة إنتاج أفكار المتلقي دائماً. فالمتلقي لا يحب لهذه الصورة الزاهية لبطله ونموذجه سوى نهاية سعيدة، فنرى هذه الشخصية تعود بعد غياب طويل ويأس قارب فقدان الأمل. ونرى الفوارق الطبقية تذوب أمام كلمة أو دمعة أو موعظة. ومثل هذا الفن يكرس الواقع وثقافته بالطبع، ويحصن الذائقة التقليدية للمتلقي، ويرفع منسوب قيم مثل «القناعة والحظ والنصيب» وما شابه ذلك. هذا على الرغم من أن الفنون والآداب ليست معنية في جوهرها بتكريس المكرس والراسخ والمتوارث.

في الأفلام الرديئة يقوم الكاتب ومخرج نصه بالتغلب على صعاب الحياة كلها خلال مشهد مفاجئ ومن دون تبرير مقنع، ومهمة هذه الأفلام في الدرجة الأولى هي إرضاء المتفرجين.


الفنون والآداب ليست معنية في جوهرها بتكريس المكرس والراسخ والمتوارث.

لماذا تنتحر آنا كارينينا مثلاً؟ من المؤكد أن كثيراً من القراء تمنوا لو أنها لم تفعل؛ لو أنها عادت إلى ابنها وزوجها وحياتها الرتيبة، أو حتى عشيقها! والأمثلة كثيرة لا تعد. ولكن السؤال الأهم هو: ما الذي اكتشفته آنا؟ وهو ما ينطبق على غيرها من شخوص نموذجية خالدة.

أدركت آنا، مثل مدام بوفاري تماماً، أن الحياة ليست مجرد ممارسة أو تغذية للغرائز، وامتثال منضبط تماماً لمجريات الزمن. فمثل هذه الحياة تليق بالحيوانات لا بالبشر. والبشر الحقيقيون هم من يدركون أن في أيديهم إمكانية التلاعب بالتدحرج الرتيب للزمن، المسمى حياة. تلك مسألة وجودية رافقت الإنسان عبر التاريخ، وتم التعبير عنها كثيراً، ولايزال الكتّاب والفنانون عبر العالم كله يواصلون هذا التعبير في أشكال متغيرة ومتجددة.

ربما يستوقفنا هذا الموت اليومي لمئات الأشخاص، ولكنه يستوقفنا كحالات إنسانية تستثير الشفقة والعطف والتضامن. أما هذا الموت المدجج بالصدى الأبدي في الآداب والفنون، فهو لا يتوقف عن قرع رؤوسنا بمناسبة ومن دون مناسبة. وقد قيل إن السبب في ذلك يعود إلى تراجيدية هذا الموت أو السقوط. ولكن هذا وحده ليس كافيا كما نظن. فما نراه من سقوط تراجيدي حقيقي ليس قليلاً أو هامشياً، ولكنه لا يترك الأثر الذي يتركه السقوط في الأدب والفن.

هل هذا يعني أن الحقيقي أقل شأناً من المتخيل؟

بل يعني أن المتخيل يصبح حقيقياً أكثر من الحقيقة نفسها، حين تتم صياغته وفق منظور لا يراعي مشاعر الناس العادية والسطحية، وإنما هو يقوم بخلخلة منظومة كاملة من الوعي والإدراك، جرى ضبطها وفق مفاهيم سادت، وأفكار اعتادها الناس، وأصبحت مقبولة بالتقادم.

أجل يستطيع الإنسان أن يتحدى هذا الجريان النمطي للحياة، يستطيع أن يكون طرفاً رئيساً في صنع مصيره، حين يكتشف أن الرفض هو أولى قواعد التغيير، حتى لو أدى هذا الرفض إلى الموت. لكن هذا لا يعني أن الموت دائماً يتربص بالرافضين. إنها معادلة على المرء أن يعيها، حين يكون عليه أن يدرك أن العقاب في شكل الموت ليس عائقاً أمام طموحات التغيير ومكافحة الشعور بالعجز المؤدي دائماً إلى الاستسلام. وعلى هذا قامت أعمال أدبية وفنية خالدة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر