أبواب

غواية الكتابة

خليل قنديل

في لحظة وحينما تدخل المشاهدة في غبرة المشهد وارتباك المشاهدة، فإن كثيراً من إغواءات الارتباط بالمشهد الحياتي تدخل في عتمة رمادية تبشر بالعماء، ولهذا حينما تُستل الحياة من سياقها العفوي وتتحوّل إلى ندية الإيقاظ تدخل في المماحكة وفقدان الارتباط مع ضجة الحياة وعفوية حدوثها، فالسماء الفرحة بزرقتها وصبيانية غيومها التي تتشكل فوق رأسك بصبيانة طبشورية ومرحة تدخل في صفعة الانمحاء وصعوبة التشكل العفوي، والأرض التي كانت تتسطر أمامك بليونة أنثوية تصبح عصيّة على الحضور والتشكل كعادتها، وشلالات المياه التي كانت تتدفق فوق رأسك لحظة دعوتك لها تصبح مجرد ركام رملي يصعب أن يتحلى بالطراوة وخفة الحركة.

«ما يُربك الكاتب هو التهديد الخفي بفقدان البوصلة المؤدية إلى طريق الكتابة، وأن يفقد جاذبية الإحضار، وأن يدخل في عتمة العماء».

«ما يجب التأكيد عليه هنا هو ضرورة الوعي بالتدميرات التي يمكن أن يخلفها فراغ المشاهدة وفقدان الاتصال».

وفي لحظة طرد الكتابة من المشهد الحياتي يصير من الصعب استدعاءها من جديد لتصير مثل امرأة جميلة أجفل جسدها وقررت الهروب أوحتى الاختفاء من عوالمك التي لا تستحقها إحداهم ديدناتها معك، وتصيرالمرأة التي كنت تستدعيها بهمسة صعبة المراس وشقية التقلبات المباغتة، هي المرأة ذاتها تصير صعبة في قدومها واستعراض قامتها وتضاريس جسدها. والمرأة حين تختار لحظة النزوح هذا فإنها تأخذ معها كل جماليات حضورها ومجموعة الروائح الطيبة التي تظل تحف حضورها وتحتفل فيه.

إن ما يُربك الكاتب هو التهديد الخفي بفقدان البوصلة المؤدية إلى طريق الكتابة وأن يفقد جاذبية الإحضار وأن يدخل في عتمة العماء النهاري في هذا الفراغ الصحراوي الموحش، وإن هذا الذعر وتلك الارتجافة في أطراف المبدع هو الخوف من العتمة المباغتة التي يمكن أن تفقده الطريق إلى الكتابة وحلول تلك العتمة في نهاراته.

لذا كثيراً ما نرى بعض الكتّاب يقفون في منطة الحول وفقدان الطريق لا لشيء سوى أنهم فقدوا بصيرة المشاهدة ولذة التوقع أنهم وحدهم، وحين تتركهم الحياة بشكل مباغت تراهم يختارون أمكنتهم في وسط الأسواق المزدحمة وعند لجة الضجيج. وهم وحدهم من يصافح شارات المرور والأماكن التي تفرغ بشكل مباغت في الأسواق.

وهو وحده من يكشف عن عري رأسه وعن صفاقة هذا الفراغ المعدني المحيط به، وهو أول من يطلع على حيثية الفقدان، ولهذ نلحظ أن حزن بعض من هؤلاء لا يخلو من الطرافة. ولهذا، فإن الكتابة التي تبدو في علائقيتها الأولى كأنها علاقة مرحة وصبيانية هي في الواقع من أشد العلاقات فتكاً بروح الإنسان في لحظة الفقدان أو الهجر.

وما يجب التأكيد عليه هنا هو ضرورة الوعي بالتدميرات التي يمكن أن يخلفها فراغ المشاهدة وفقدان الاتصال. والعمل المتصل على عدم الوقوع في تشظيات الواقع المركب وانشطاراته المباغتة. ما أسعى للتأكيد عليه في هذه العجالة الكتابية هو أن للكتابة ديدنها المنطقي والصارم، على الرغم من كل هذه الخلاعات التي تميز حضورها، وعلينا أن نظل نمسك بتلاليب الحياة، وأن نجعلها لا تغافلنا وتهرب منا لتقيم في منطفة الحسرة والفقدان.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر