أبواب

الكتابة والمتعة والمعرفة

يوسف ضمرة

إذا كنا نقرأ للمتعة، وللبحث عن ما ينقصنا، فإننا بالضرورة سوف نقرأ ما هو جديد ومفاجئ ومدهش ولافت ومثير، فهذه الصفات هي التي تحقق المتعة، وتعوض بعض ما ينقصنا.

إن كتابة أفكارنا المألوفة لا تقدم شيئا من المتعة، ولا تملأ فراغا في دواخلنا، إنها كتابة تشبه صدى النوتة الموسيقية التي سمعناها، ومن الحماقة أن يفكر بعضنا في أن هذا الصدى هو نوتة جديدة مبتكرة، أو لعله خلل في الحواس هو الذي يتسبب في تفكير كهذا.

وقد يتساءل البعض إن كان بالإمكان دائما الإتيان بجديد ما في الكتابة، وهو سؤال يدل على سوء تقدير لمعنى الإبداع وملكاته، فمعنى الإبداع هو في الأصل توافر إنتاج ما على ما لم يكن معروفا من قبل.

يتساءل البعض إن كان بالإمكان دائماً الإتيان بجديد ما في الكتابة، وهو سؤال يدل على سوء تقدير لمعنى الإبداع وملكاته.


لا متعة في سرد وقائع الماضي كما هي، ولا إمكانية للعثور على ما ينقصنا كبشر.

قرأت ذات يوم أن مجموعة من الشباب في جنوب الاتحاد السوفييتي، شكلوا خلية مقاومة للنازية، وحينما انتهت الحرب تم العثور على بعض الأوراق والوثائق الخاصة بهذه المجموعة، وقد قرر اتحاد الكتاب السوفييت توفير هذه الوثائق لعدد من الكتاب لكتابة رواية، وقد قيل إن أكثر من كاتب جرب الكتابة، لكن المحصلة لم تكن بحجم الطموح، لأن الحقيقة كانت قوية، كان لابد من إبداع يطال الشخوص والحكايات والوقائع والتقنية، وهو ما فعله ألكسندر فاديف، فخرجت رواية الحرس الفتى بقوتها التي لا تمحى من الذاكرة.

مجمل القول هو أن الكتابة الإبداعية عليها أن تصوغ الحقيقة بشكل مغاير للتأريخ والتوثيق، وهذا الشكل المغاير هو ما يمنح الكتابة قوتها التعبيرية والتأثيرية، أكثر بكثير من سرد الواقعة الحقيقية كما هي.

يمنحنا الواقع الكثير من ما يحملنا على إعادة صياغته إبداعيا، كالحروب والنزاعات وقصص الحب والمآسي والكوميديا، إضافة إلى التفاصيل البشرية اليومية، لكن هذا كله وحيدا لا يصنع أدبا ولا يشكل جوهر الإبداع، ثمة ما نحن دائما بحاجة إليه، وهو الأفكار والمفاهيم والأبعاد التي تنطوي عليها وقائع الحياة اليومية، وإذا كانت الكتابة سوف تنقل لنا ما حدث يوما ما بدقة، فلا ضرورة لها على الإطلاق. فلا متعة في سرد وقائع الماضي كما هي، ولا إمكانية للعثور على ما ينقصنا كبشر.

تمنحنا الحياة علامات يمكن للكتابة توظيفها والاستفادة منها، فالكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك لم يسرد لنا شيئا من وقائع الحرب الكونية الأولى، لقد منحنا المقدرة على رؤية أفكار البشر في مرحلة حرجة، وكشف الغطاء عن منطقة في النفس البشرية، قادرة على التعامل مع الحرب من زاوية جديدة.

الضحك.. الحرب التي تحصد الأرواح وتقتل الناس وأحلامهم، يمكن للمرء مجابهتها بالسخرية.

يحدث هذا في الكتابة، لأن الكتابة قادرة على إماطة اللثام عن الأفكار المخبأة في النفس البشرية، فالحرب لا تتطلب السخرية والضحك في واقع الأمر، لكن الكتابة قادرة على خلق شخصيات ومواقف تسخر من الحرب، وتصورها مجرد حدث كاريكاتوري هزيل، إن مجرد تصوير الحرب كمجموعة من المواقف المثيرة للسخرية، يفقدها ذلك الأثر المؤلم في النفس، ويمنح الإنسان المقدرة على مواجهتها بتبعاتها وتداعيتها القاسية في الحقيقة. ويمنح المرء المقدرة على تجاوز آثارها والانتقال إلى مرحلة مغايرة، بدلا من المكوث في المنطقة ذاتها بقية الحياة.

متعة بلا شك، لكنها كذلك تجعلنا قادرين على معرفة الكثير من ما نجهله عن أنفسنا.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر