أبواب

معيار الطهارة الأدبية

يوسف ضمرة

كما شُطبت فلسطين من خرائط عدة، عربية وأجنبية، يجري بالتدريج محوها من خريطة الأدب العربي، قلة من الكتّاب العرب مازالوا يذكرون فلسطين في قصائدهم وقصصهم ورواياتهم، يُسجل لبعض الكتّاب الفلسطينيين تشبثهم أدبياً بفلسطين، رشاد أبوشاور وفاروق وادي وإبراهيم نصر الله ومحمود شقير وخالد أبوخالد وسحر خليفة، ثمة دائماً من يقبض على الجمر، وثمة دائماً أمل يومض، أو جمرة تتوهج تحت الرماد مع هبة ريح.

نطالب بإبقاء فلسطين جذوة حيّة في الكتابة الفلسطينية والعربية، كتابة لا تكتفي بالغناء والبكاء والحنين كيفما اتفق، فالكتابة فعل متطور وبنية متحركة ومتفلتة من قوالبها.


فلسطين قضية تخص الإنسانية كلها، لا الفلسطينيين فقط، وموضوعها ليس مستهلَكاً أدبياً، إلا عند من هو عاجز عن التفكير فيها كوطن وقضية وموضوع إنساني يحتاجه الأدب.

الخطورة الكبرى هي في غياب فلسطين عن كتابات الفلسطينيين في الشتات، غياب له أسبابه غير المقنعة بالطبع، فمنابر النشر لم تعد تفضل هذه الكتابات إلا قليلاً، والكتابة عن فلسطين أصبحت ضعيفة إلا قليلاً، فنحن لا نطالب بالكتابة عن فلسطين وكفى، نطالب بإبقاء فلسطين جذوة حيّة في الكتابة الفلسطينية والعربية، كتابة لا تكتفي بالغناء والبكاء والحنين كيفما اتفق، فالكتابة فعل متطور وبنية متحركة ومتفلتة من قوالبها، ولا يصح لقضية مثل فلسطين أن تظل حبيسة قالب بكائي أو استعراضي، تستحق فلسطين بنية فنية رفيعة وعالية، تستحق تقنيات جمالية وعوالم فنية مدهشة، تستحق نماذج أدبية تحفر ملامحها في الوجدان الشعبي كوشم مقدس، فالكتابة التي تعيد إنتاج الكتابة السابقة عن فلسطين، وبتقنيات مشابهة أو أقل فتنة، تقلل من قيمة القضية كلها، وتسهم في دحرجتها من قمة القمم إلى أدنى السفوح، ليست فلسطين مجرد اسم أو موضوع أدبي، ليست فلسطين جواز مرور لبعض أشباه الكتّاب والراغبين في القفز من على عتبة فلسطين إلى مواقع أخرى.

لن نجافي الحقيقة بالقول إن حضور فلسطين أصبح خافتاً بعد رحيل غسان كنفاني ومحمود درويش، وليست مكابرة أن نعود إلى قراءة غسان كنفاني بعد هذا الزمن الطويل، فغسان كتب فلسطينه بشخوصها الحية، أم سعد وأبوالخيزران. ومحمود درويش ارتفع بفلسطين التي تحولت إلى نوتة موسيقية مبتكرة في سيمفونية مذهلة.

وبالعودة إلى الأسباب، نشير إلى أن بيروت التي استقطبت كبار الكتّاب والشعراء العرب، لم تعد خيمة المقاومة الأخيرة التي يقصدها الوطني والتاجر والمتسلق والانتهازي والمنبوذ، غادرت المقاومة الفلسطينية بيروت فغادرت فلسطين كتابات الكثيرين ممن تغنوا بها وهتفوا لها.

ومع هذه الخيبة والانكسارات، برزت كتابة جرى تهميشها مطولاً، كتابة المرأة مثلاً، قصيدة النثر، وكتابات أخرى تشعرك بأن الزمن صار لها، وأنها حُرمت من الظهور طويلاً وقسراً، هل كانت مصادفة كل هذه الكتابات عن الجسد مثلاً؟ هل كانت هذه الكتابة «الإيروسية» المتدفقة التي ملأت المكتبات مجرد طفرة؟ هل كان ينقصنا في العالم العربي مجلة ثقافية تُعنى بالجسد، وتحمل الجسد عنواناً لها؟ يبدو كأن فلسطين شكلت قيداً لبعض الكتّاب الذين وجدوا ضالتهم في انكفاء المقاومة، فبعد أن كان الكثير من الكتّاب العرب يتعمدون أدبياً بقضية فلسطين، صار مقدار البعد عن فلسطين معياراً للطهارة الأدبية، سمعت أحدهم ذات يوم يقول مستنكراً: إلى متى سنظل نكتب عن فلسطين؟ قلت على الفور: إلى الأبد، وإلا لماذا أصرّ ماركيز مثلاً ــ حتى رحيله ــ على استذكار الحروب الأهلية والاستعمار الإسباني لقارة أميركا اللاتينية؟

وبعيداً من البعد القومي والهوية، فإن فلسطين قضية تخص الإنسانية كلها، لا الفلسطينيين فقط، وموضوع فلسطين ليس مستهلَكاً أدبياً، إلا عند من هو عاجز عن التفكير بفلسطين كوطن وقضية وموضوع إنساني يحتاجه الأدب!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر