أبواب

السرد.. هذا العالم الماكر

يوسف ضمرة

سيظل السرد كائناً مراوغاً ومخاتلاً كما كان منذ البدء، منذ المرويات والمحكيات والأساطير والملاحم حتى يومنا هذا، وسيظل النقاد والدارسون عاكفين على البحث والدرس والتمحيص للوصول إلى زوايا واسعة للعبور منها إلى عالم السرد، ومحاولة الحصول على بعض اللآلئ التي ينطوي عليها.

شُكلت جمعيات واتحادات ومؤسسات تُعنى بالسرد، لكن الجهد الرئيس يظل فردياً وإبداعياً، ثمة على الدوام من يفتح كوة جديدة في الجدار العريض والصلب بين عالم السرد والعالم الموضوعي. ولأن للسرد علاقة بالماضي، فإن له علاقة بالتاريخ بالضرورة، لكن السرد الفني ليس سرداً تاريخياً، والشخوص في السرد ليست شخوصاً تاريخية أو حقيقية، إنها حقيقية في الممكن السردي، كما يقول سعيد بنكراد، في ورقته التي قدمها إلى مؤتمر السرد الذي تعقده رابطة الكتّاب الأردنيين.

لا أحد في «خان الخليلي» أو «بين القصرين» يتساءل عن شخصية تاريخية في المكانين، لكن الجميع يبحثون عن سي السيد وكمال عبدالجواد وياسين وزنوبة.

سيظل السارد يبتكر التقنيات الجديدة ليصوغ خلالها أبنيته وعوالمه الممكنة، وسيظل النقاد والدارسون يبحثون عن الأسرار والمفاتيح الأكثر قوة والأجدى نفعاً.

يتكئ بنكراد على مفاهيم أومبيرتو إيكو، الذي يفرق بين العوالم الممكنة (السرد) والواقع، على الرغم من أن كل ما في السرد مستمد من العالم الواقعي، إلا أنه ليس واقعياً بالطبع. وهو واقعي فقط في عوالمه التخييلية. فالقول ــ كما يقول إيكو ــ إن شخصاً ما اسمه هاملت عاش يوماً ما في مرحلة زمنية، هو قول يجافي الحقيقة. لكننا لو قرأنا طالباً يتقدم لامتحانات التجاوز الأدبية، وهو يقول إن هاملت تزوج من أوفيليا، فإننا سنقول على الفور إنه أخطأ، هذا يعني عند إيكو أن العوالم الممكنة هي أبنية مستقلة عن البنية الواقعية، لكنها في الوقت نفسه تمتلك المقدرة على تشكيل حضورها بمروياتها وحكاياتها التي يجب التعاطي معها بأمانة ومن دون تشويه.

يشير إيكو إلى مسألة الزمن في الواقعين: الموضوعي والمتخيل، وهو يؤكد أننا نتعامل مع الواقع المتخيل زمنياً كما يتعامل المؤرخ مع شخوصه الحقيقية، أي أن العوالم الممكنة، كما يسميها إيكو، تستنبط لها تاريخاً وزمناً وحكايات وشخوصاً موازية، وربما تصبح عبر التاريخ ذات تأثير أكثر قوة من تأثير الشخصيات التاريخية. فالكاتب الشهير ألكسندر دوماس، كتب روايته ذائعة الصيت «الكونت دي مونت كريستو»، مستوحياً ــ كما قيل ــ أحداثها من وقائع حقيقية لشخصية حقيقية تدعى «بيير بيكو»، في زمن لويس الثامن عشر. لكن، لا أحد ــ كما نظن ــ يتذكر«بيير بيكو» أو لويس الثامن عشر أو نابليون عند الحديث عن رواية الكونت دي مونت كريستو. أصبحت تلك الشخصيات الحقيقية مجرد أشباح أمام شخصيات العوالم الممكنة.

والأمر ذاته ينطبق على شخصيات نجيب محفوظ، فلا أحد في خان الخليلي أو بين القصرين يتساءل عن شخصية تاريخية في المكانين، لكن الجميع يبحثون عن سي السيد وكمال عبدالجواد وياسين وزنوبة، لا أحد تقريباً يعرف شيئاً عن تاريخ خان الخليلي، خصوصاً العرب، لكنهم يعرفون خان الخليلي المرسوم في «العوالم الممكنة»، أي في عوالم نجيب محفوظ. ولو جاء دليل سياحي وأخبرنا شيئاً عن تاريخ هذا المكان، فإن عيوننا ستظل شاخصة باحثة عن أمينة وعائشة وغيرهما من شخوص محفوظ المحفورة في الذاكرة، والمتحركة بحيوية تفوق حيوية أي شخصية حقيقية في المكان.

سيظل السارد يبتكر التقنيات الجديدة ليصوغ خلالها أبنيته وعوالمه الممكنة، وسيظل النقاد والدارسون يبحثون عن الأسرار والمفاتيح الأكثر قوة والأجدى نفعاً للنص السردي، وهو ما يجعل العملية كلها فعلاً دينامياً متحركاً ومتطوراً دائماً.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر