أبواب

عائلات إبداعية

يوسف ضمرة

في العالم العربي نعرف أن الآباء يورثون الأبناء الحِرَف والمهن، ويهيئونهم لتسلم أعمالهم، ولا يقتصر الأمر على الحرف والمهن و«الصَّنعة»، كما يقال، وإنما يتعداها إلى مجالات حيوية أخرى في الحياة.

كان الأمر قديماً يتعلق بالرعي ثم بالزراعة، وكان الرجال يتزوجون أكثر من امرأة لمزيد من إنجاب الأبناء، وكان من الطبيعي أن تنشأ ثقافات القطاعات والشرائح الاجتماعية، كثقافات الطبقات. والثقافة هنا تأخذ معناها الأنثروبولوجي، الذي يشمل عادات الأكل ونوعه، والألبسة والسلوك والأفراح والمآتم، وحين ينتقل الأمر إلى الحرف والمهن اليدوية التي تستوجب مقداراً من التعلم والدقة، تقل الشريحة بالطبع، لكن تصبح لهذه الشريحة أيضاً أنماط ثقافية متشابهة، تبدأ من تصميم المنزل وتأثيثه، ولا تنتهي بالمفردات اليومية التي لا يعرفها آخرون خارج هذه الشريحة. وعلى الرغم من التنافس الذي يطبع العلاقة بين الأفراد والجماعات هنا، إلا أن الحرفة أو المهنة والتفاصيل اليومية، تجعل الأفراد يتقاربون في مواجهة شرائح أخرى مختلفة.

يمكن للآباء والأمهات أن يكونوا قدوة لأبنائهم في التعلم والاجتهاد والقيم، لكنهم أبداً لن يكونوا قادرين على سكب أرواحهم الإبداعية في نفوس الأبناء.

في عالمنا العربي انتقل توريث المهنة والحرفة إلى توريث الاهتمامات الاجتماعية، ومنها السياسية بالطبع.

وفي عالمنا العربي أيضاً، انتقل توريث المهنة والحرفة إلى توريث الاهتمامات الاجتماعية، ومنها السياسية بالطبع، فقد صارت هنالك في بعض البلدان العربية ما يمكن تسميتها بالعائلات السياسية أو «البيوتات» السياسية، كما هي الحال في لبنان والأردن مثلاً، وصار من الطبيعي أن يصبح رئيس الوزراء ابن رئيس وزراء سابق أو حفيده.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد نشأت في بعض المناطق شرائح ثقافية وفنية عائلية، وقد كنا نستغرب، ونحن على مقاعد الدراسة، وجود عائلات أدبية في لبنان، مثل «المعلوف»، قبل أن تصبح هنالك عائلات فنية مثل «الرحابنة»، لكن هذه العائلات لم تكن تحمل خاصية التوريث، واقتصرت على الأشقاء والأقارب من عائلة واحدة، أما الجديد هنا فهو توريث العمل الإبداعي، الذي أخذ يتعين في السينما والغناء ثم الأدب. ففي مصر مثلاً، صار من الطبيعي أن يصبح ابن الممثل ممثلاً أو مخرجاً، وابنة الممثلة ممثلة أو مطربة، وابنة الراقصة راقصة، وهكذا، وقد اتسعت الظاهرة إلى الحد الذي توزع الأبناء على مسالك فنية عدة، كالعمل الإعلامي وفروعه المتنوعة، ثم بدأنا نلحظ الظاهرة وقد تمددت لتطال الكتابة الأدبية، الروائية والقصصية والشعرية، ولدينا أمثلة عديدة في هذا السياق، كما هي الحال في عالم الصحافة أيضاً.

السؤال البديهي هنا هو: هل الأدب يورث؟

قديماً قالت العرب «أدركته حِرفة الأدب»، بمعنى أنهم كانوا ينظرون إلى الأدب كحرفة، لكننا لا نعثر في التاريخ العربي على شاعر وابنه على مستوى فني وجمالي واحد، ولعل الفارق بين زهير بن أبي سلمى وكعب بن زهير يؤكد ذلك، وهذا يعني أن التعلم وحده لا يكفي للإبحار في عالم الكتابة والإبداع، كما أن الحياة الاجتماعية اليومية لا تمنح الأفراد بالضرورة مقدرة على صعود هذا الجبل. فالرحابنة (عاصي ومنصور وفيروز) أنجبوا الكثير من الشباب الذين امتهنوا الفن، مسرحاً وغناءً وموسيقى، لكنّ واحداً فقط تمكن من شق طريقه (زياد)، لا لكونه ابن فيروز وعاصي، وإنما لكونه مغامراً، سلك طريقاً مغايرة لطريق أمه وأبيه.

يمكن للآباء والأمهات أن يكونوا قدوة لأبنائهم في التعلم والاجتهاد والتمسك بالقيم، لكنهم أبداً لن يكونوا قادرين على سكب أرواحهم الإبداعية في نفوس الأبناء، وهو ما يؤكد أن الإبداع قيمة فردية تماماً.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر