5 دقائق

كأشجار الصفصاف حزنهم

خالد الكمدة

«لا بأس بذكر اسمه، نريد أن يكون ابننا بموته سبباً لإنقاذ شباب آخرين»، قال الأب بصوت مرتجف وجفنين أحمرين، وأحرقت ملوحة الدمع عيني الأم الثكلى. أن تفقد شاباً في الخامسة عشرة فهذا تحول أكيد في حياة أية أسرة، لكن أن يمضي الشاب منتحراً فهو شأن مريع لا يُجزع الأسرة فحسب، بل يزلزل كل من تتناهى إلى سمعه الحكاية.

في زاوية آمنة من مجلسي ركن الوالدان بملامح كسيرة وأيدٍ مرتجفة، يدفنان حزنهما بعزيمة صلبة على استثمار فجيعتهما لحماية من يمكن حمايته، ومنع ما يمكن منعه من فواجع أخرى. في ثوبها الأسود دفنت (أم لويس) كل أحزانها، وفي سعيها لانتشال مراهقين آخرين قبل الوقوع في مصير ابنها، كتمت عجزها عن إيجاد تلك الفجوة التي تسللت منها رغبة الانتحار إلى صبي لا يلفه حزن ولا تغزوه كآبة، ويحيطه حنان وحب ونجاح، يشب في كنف أسرة متفهمة وسعيدة، لا تنقصها نعمة ولا تثقلها المشكلات.

قد يفيد تحليل الأسباب والدوافع في ما يخضع للمنطق من الأمور، لكن مزاج المراهقين لا منطق له، وفي أجسادهم التي يشبهون بها الرجال، يختبئ أطفال متوجسون، تقلصت فرصهم في البكاء الطويل بغير سبب، وهاجمتهم رجولة لا يفهمونها. أطفال بلحى وشوارب، أو رجال صغار، سمهم ما شئت، فحيرتهم ووحدتهم لا أسماء لهما، والأمان ترياقهم السحري الذي ينشدونه.

لا ترتبط هواجس وضع نهاية لحياة لا يفهمونها بثقافة أو نشأة المراهق، وليست ببعيدة عن أي من أبنائنا، وقد يبدو مفاجئاً أن أولئك الذين تحيطهم الاضطرابات الاجتماعية والأسرية ليسوا بأكثر عرضة لهذا الهاجس ممن هم في محيط آمن. ما قد يُحدث الفرق إحساسهم بوجود الطمأنينة التي يطلبونها في مكان ما، لا مشكلات واضحة لديهم لتعالج، ولا عقد كبيرة لتحل، أن يكون معهم آخرون في وحدتهم النفسية، أن يستمع إليهم محب بغير مساءلة، فهذا يكفي.

مع نهاية رحلة حياته القصيرة، أنهى «لويس سميث» قبل بضعة أشهر، وبغير قصد، كل فرح وسكينة في قلب والديه، وكأشجار الصفصاف نما حزنهم من قلوب منكسرة ليورق بكثافة، يُظل من أنهكه قيظ الهموم، وُيلجأ من هاله هزيز الرياح. بشجاعة غلفت الألم، يعملان كيفما استطاعا لنشر رسالتهما للآباء والأمهات والشباب، حتى لا يتذوق غيرهما ما تجرعا من أسى.

أمام قصة حزينة كهذه، تقف معجباً كيف حوّل الأهل انكسارهم إلى طاقة إيجابية سخروها للآخرين، حائراً كيف يمكن أن تجد المفتاح لقضية لا أبواب لها، متسائلاً ماذا عسانا فاعلون لكي نلتقط إشارات متقطعة غير مترادفة، نقرأ فيها أي خطر محتمل يلف أبناءنا، كيف نمنع عنهم الخطر، ونمنحهم قبلة الحياة وهم يعيشون بيننا بأجسادهم، وفي أرواحهم وحيدين، عازماً على أن تعمل في كل اتجاه، ومع كل جهة حتى يغمر السلام شبابنا وتطمئن نفوسهم.

twitter@KhaledAlKamda

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر