أبواب

بدايات.. ولكن ثمينة

يوسف ضمرة

أياً كان الشأن الذي يبلغه الكاتب العربي فإن الموت كفيل بمحو ذكره، ناهيك عن صراع الكاتب الطويل والمضني أثناء حياته للبقاء.

نعم، هنالك جوائز قد تخصص في اتحاد أدبي باسم كتاب راحلين، وربما تقوم بعض الهيئات بتنظيم ملتقيات تخلع عليها أسماءهم، وربما يتم تنظيم حلقة دراسية لهذا المبدع الراحل أو ذاك، لكن هذا كله يظل موسمياً وطارئاً.

في المقابل، وفي الغرب، نرى هنالك مؤرخين فنيين وأدبيين مختصين في هذا الكاتب أو ذاك. يتفرغ المؤرخ تماماً لمبدع ما.. فنان تشكيلي أو موسيقي أو كاتب أو شاعر. يقوم المؤرخ بالبحث والتنقيب، ونشر كل ما يصل إليه، ما يخص المبدع. لا يلتفت إلى الزمن الذي مر طويلاً كان أم قصر. يتابع تفاصيل المبدع الحياتية والإبداعية.. يسافر ويستقصي وينقب في الكتب وفي الصحف القديمة. يحاول استجلاء قضية غامضة أو ملتبسة. يستعين بكتابات مجايلة وبكتابات لاحقة.

في الغرب نرى هنالك مؤرخين فنيين وأدبيين مختصين في هذا الكاتب أو ذاك، يتفرغ المؤرخ تماماً لمبدع ما.. فنان تشكيلي أو موسيقي أو كاتب أو شاعر.. يقوم المؤرخ بالبحث والتنقيب ونشر كل ما يصل إليه مما يخص المبدع.


أستغرب أن يقف المثقفون والكتّاب في وجه عمل كنشر قصائد أمل دنقل الأولى، فهي لن تقلل من قيمته الفنية التي بلغها في مسيرته، ولكنها قد تمدنا نحن القراء بمزيد من القدرة على فهم إنتاجه اللاحق.

لن أنسى أن مؤرخة فنية وضعت سيناريو جديداً ومغايراً لأذن فان كوخ، حين قالت إن صديقه الفنان سيزان هو من فعل ذلك في لحظة خلاف بين الاثنين وهما ثملان. وكذا قصة مقتل لوركا، حين خرج أحدهم قبل سنوات قليلة فقط، ليخبرنا أن لوركا قتل بسبب نزاع عائلي حول ملكية أراض زراعية. وإذا كان هنالك شيء زائف في بعض ما يعاد تدوينه، فإنه لن يكون قادراً على مزاحمة الحقيقة التاريخية. فقد تعودنا من التاريخ أن يصحح أخطاءه دائماً، ولكن بمساعدة البشر أنفسهم.

مناسبة هذا الكلام هي اعتراض عبلة الرويني، وبعض الكتاب المصريين، على نشر قصائد أمل دنقل الأولى، التي نشرها أخيراً أنس دنقل ـ لا أعرف صلة القرابة بينه وبين الشاعر.

ففي حال أمل دنقل، لا يصح القول إن هذه القصائد الأولى أقل في مستواها الفني من المستوى الذي بلغه أمل دنقل. فمن الطبيعي أن تكون كذلك، ولا أحد كان ينتظر من ابن العشرين أو الثامنة عشرة أن يكون على صورة ابن الأربعين أو الثلاثين. هنا لا تظل الأهمية متعلقة بالقيمة الجمالية والمعرفية للشاعر أو الكاتب. ثمة بعد آخر سنكون معنيين به منذ اللحظة الأولى لرحيل المبدع؛ التشكل الثقافي والاجتماعي والنشأة والبيئة ومدى تأثير هذا كله في مسيرته. فهذا كله يسهم في رسم ملامح أكثر وضوحاً للمبدع الراحل. ولا يتركنا نغمض العيون على صورته الأخيرة المحسنة بالضرورة.

فما المانع من قراءة بدايات يوسف إدريس مثلاً؟ خربشاته التي لم تصل إلينا؟ أفكاره وتهويماته وأحلامه قبل أن ينشر قصصه في الصحف والمجلات المعتبرة؟ لم لا نحصل على تفاصيل مراحل عمره قبل أن يصبح كاتباً مكرساً؟ أين نجيب محفوظ الطالب المدرسي؟

أستغرب أن يقف المثقفون والكتاب في وجه عمل كنشر قصائد أمل دنقل الأولى. فهي لن تقلل من قيمته الفنية التي بلغها في مسيرته، ولكنها قد تمدنا نحن القراء بمزيد من القدرة على فهم إنتاجه اللاحق. وربما تساعد النقاد والدارسين على اكتشاف خط السير الجمالي للشاعر، أو كشف ما خفي من هذا الخط ، ما يساعد في فهم التجربة كلها بشكل أكثر عمقاً، يصبح قابلاً للتعميم كتجربة متفردة.

لا تحجبوا عن القارئ أي شيء مما يمكنه الوصول إليه أو معرفته.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر