أبواب

فصام شعبي

يوسف ضمرة

مالك بن جلول مخرج جزائري كان يقيم في السويد، حصل فيلمه الوثائقي «البحث عن رجل السكر» على جائزة الأوسكار في العام الماضي، عُثر عليه منتحراً في شقته قبل أيام. هذا يشير إلى أن المثقف العربي محكوم بالإقصاء والتهميش بوسائل عدة، حتى وهو يظن أنه في مأمن من أوبئتنا العربية القاتلة كالطائفية والاستبداد والمذهبية والتكفيرية، ربما يشعر بأن عليه ديناً ينبغي له تأديته بنفسه.

المثقف، الكاتب، المبدع، ربما يموت في السجن أو برصاصة قناص أو من الجوع أو من المرض أو الجنون مثل نجيب سرور، وإن لم يكن فهو كفيل بالقيام بالمهمة وحده. خليل حاوي وتيسير سبول وعبدالباسط الصوفي وغيرهم.

المثقف العربي محكوم بالإقصاء والتهميش بوسائل عدة، حتى وهو يظن أنه في مأمن من أوبئتنا العربية القاتلة كالطائفية والاستبداد والمذهبية والتكفيرية، ربما يشعر بأن عليه ديناً ينبغي له تأديته بنفسه.

انتحار المبدع يعني بإيجاز بالغ، أنه فقد فسحة الأمل التي صدّع الطغرائي رؤوسنا بها «ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأملِ».

ربما لا يكون المبدع العربي هو الوحيد الذي يفعل ذلك، فاليابانيون اشتُهروا به أكثر من غيرهم. لكن المبدع العربي لديه من الدوافع والأسباب ما يكفي ويزيد، بحيث في استطاعته توزيع ما تبقى على مبدعي العالم كله، يكفي هذا الجنون الصارخ في الشوارع والبيوت لكي يدرك المبدع العربي أن الفن لم يعد قادراً على مساعدته، تكفي الحروب الأهلية واستقواء الإخوة بعضهم على بعض.

في الحرب الأهلية الإسبانية، ترك العديد من الكتاب والمبدعين العالميين أوراقهم وأقلامهم وكتبهم في منازلهم الموزعة في بلاد كثيرة، وذهبوا للقتال إلى جانب الجمهوريين ضد كتائب فرانكو. ثمة حد فاصل بين الكتابة والفعل، حد لا يمكنك إغفاله أو تجاهله.

لا أدعو إلى التوقف عن الكتابة، ولا إلى الانتحار، أدعو فقط إلى كتابة تليق بالموتى والمهمشين والغائبين والواقفين على الحد الفاصل بين الجنون والموت. إبداع تتوافر له السكاكين والبنادق مثلما تتوافر الأقلام والألوان وساحات الرقص في بلاد أخرى.

انتحار المبدع يعني بإيجاز بالغ، أنه فقد فسحة الأمل التي صدّع الطغرائي رؤوسنا بها «ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأملِ». وفقدان الأمل لا يأتي بغتة أو مصادفة بالطبع، فأنت تكتب ولديك أمل بأن ثمة من يقرأ، وثمة من يستمع إليك، حتى لو لم يكن متفقاً معك. أما أن تكتب أو ترسم أو تصنع فيلماً أو تمثل أو تغني وأنت تدرك أنك تفعل ذلك في بلاد يعلو فيها صوت القذائف، وتفوح في أزقتها ومنازلها رائحة الموت، ويستدرجك التخلف في كل خطوة ومشهد، فهذا ما يعني أنك تصبح أقرب إلى الموت، فالمبدع يقيم في إبداعه، وحين يصبح هذا الإبداع مجرد صورة وهمية، أو صوتاً مختنقاً، فإنك تختنق معه.

ربما حاول مالك بن جلول الجزائري نسيان تاريخه وجغرافيته، ربما اكتشف أن المسافة بينه وبين الوطن مجرد أكذوبة كشفتها نشرة أخبار في فضائية عابرة، قد تكون ثمة أسباب مباشرة بالطبع، لكنها ليست سوى القطرة الأخيرة التي تجعل الماء يفيض، فكل امرئ معرض لهزات في الحياة، ولكن، ليس كل امرئ يقتل نفسه جراء ذلك، فمالك بن جلول مثقل بإرث وحاضر مشبعين بالخوف والدم، مثقل بتراث وراهن غرائبيين، من حيث قدرة الأفراد والجماعات على التقديس من جهة، والاستهتار والاستخفاف بحيوات البشر من جهة ثانية. إنه فصام شعبي عارم لا ينفع معه الطب النفسي النمطي، الكل يقدس شيئاً ما، أو أحداً ما، والكل يسفك الدم ويبطش بلا هوادة أو رحمة أو شفقة، تخففوا من عبء القداسة، فهو ثقيل.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر