ابواب

ذاك الرجل!

خليل قنديل

حينما دخل الرجل حافلة الركاب بمعطفه العسكري السميك والبالي، وشعره الأشعث، وملامحه المشدودة والمنقبضة، استطاع أن يلفت إليه الانتباه، وهو يزمجر ويشتم ويبصق، مستنداً إلى جهاز «الجوال» الذي يحمله، والذي كان يبدو مثل حبة شيكولاتة ذائبة بين أصابعه، وقد جعل هذا كل من ينظر إليه لا يفكر في الجهة التي يتحدث معها بـ«الجوال»، بل في الرجل نفسه الذي كان متحداً مع جواله، ساعة يهرسه بين أصابعه، وساعة يبصق عليه، وفي لحظة أخرى يكاد يلقيه على الأرض، ويهرسه تحت قدميه!

في غضون ذلك كان بعض الركاب يحاول أن يوازن بين كل هذه الملابس الثقيلة التي يرتديها الرجل ودرجة الحرارة التي كانت قد تجاوزت الـ40 درجة، وربما هذا ما جعل بعض الركاب يتدخلون وهم يهدئون من عصبية الرجل وتوتره، وبالنسبة إلي اعتبرت أن الرجل يمارس وسط كل هذا الحضور جنوناً ذكياً بحيث يتستر بالجوال، وبكل هذه الملابس الثقيلة من دون أن يجرؤ أي واحد من الركاب على أن يسأله عن هذه المسألة!

مثل هذه المجتمعات في حالة انتظار مزمنة لأي اختلال عقلي، حتى تبدأ بتعميق حالة الجنون والتركيز عليها حتى يجن المرء فعلاً.

وقد قادني هذا التداعي، وهذه المقارنة، إلى افتقار معظم مجانين الفقراء في دول العالم الثالث إلى مثل هذا الجنون المعلن، بسبب أن مثل هذه المجتمعات تكون في حالة انتظار مزمنة لأي اختلال عقلي حتي تبدأ بتعميق حالة الجنون والتركيز عليها حتى يجن المرء فعلاً. بينما استطاع مجنون الحافلة أن يبعد مثل هذه الشبهة بحمله لجهاز الخلوي، والتحدث من خلاله!

والمقارنة التي هي أعتى من ذلك أن هذا الرجل أيقظ بجنونه المباغت هذا شخصية «أبوالترك» الذي واكبنا جنونه ونحن في سن الطفولة، إذ كان يذرع شارع البارحة في مدينة إربد جيئة وذهاباً، وهو يحادث شخصيات وهمية كانت تتبدى له من على أسطح البيوت، وكان يشتمها ويبصق عليها، ويشرح أسباب غضبه منها، التي عادة ما كانت تدور حول احتيال هذه الشخصيات عليه وسلبه قطعة أرض خاصة به!

طبعاً كان مثل هذا التصرف يكلّفه مطاردات وتراشق حجارة بينه وبين المارة، وحركة كر وفر تبدأ عند الصباح وتنتهي مساء، والغريب هو هذا التشابه بين رجل الحافلة وأبوالترك؛ خصوصاً تشابه المعطف العسكري البالي!

وحين طلب الرجل من السائق التوقف، ورأيته وهو يهبط درج باب الحافلة، ويغيب بين الجموع حتى اختفى، حزنت على أبوالترك الذي كان من الممكن لو حمل جوالاً ومارس كل جنونه، لما استطاع أي واحد أن يشاركه ذاك الجنون، لكن يبدو أن الفارق في زمن الاختراع هو الذي أعاق ذلك!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر