أبواب

السحرّة

خليل قنديل

ما من أحد يستطيع التكهن بالمكان الذي يتأبد فيه بطل الرواية أو القصة أو حتى القصيدة، ربما لأن مثل هذه الأمكنة تظل مثل البخار الطازج الذي تنفثه الأدمغة العظيمة، وتظل هكذا تتشكل وتتكون بأشكالها الأميبية حتى تقبض عليها اليد الجمرية للمبدع لتعجنها مع الحبر، لتشكل التكوين الابداعي النادر الذي يظل يسوقنا باتجاه الدهشة.

وما من أحد يستطيع أن يخمن تلك الجمرة الحبرية التي تلدغ الروح على اعتبار انها هي أحد الكنوز المخبأة التي ظلت تتحرش باليد المبدعة، حتى اصطادتها وقادتها الى الكتابة مخفورة بالتعبير المعبأ بالدهشة، وإلا ما معنى هذا الدوار الذي أصاب فان جوخ وهو في الحقل حتى سقط مغشياً عليه من هول مشهد سنابل القمح وزرقة السماء والطيور التي جرحت الأفق بعبورها المباغت فوق رأسه، أي سيمفونية عزفتها الطبيعة فوق رأس فان جوخ وجعلته يقع صريعاً لجمالية المشهد.

وما من أحد يجيبنا عن لغة التحدي التي أطلقها ت.إس.اليوت وهو يقول في مطلع شبابه: «سأكتب بحبر سيزلزل العالم» ما هي الضغينة الكوكبية التي جعلت لورانس يطلق مثل هذا التحدي المبكر. ثم من يصدق الطفل رامبو الذي جاس أدغال إفريقيا والقرن الإفريقي وهو يقدم ساقه عربوناً للمشهد الشعري الذي يتجسد أمامه، وهو صاحب «المركب النشوان» وبقية الرؤى الشعرية المجنونة.

وما الذي يجعل «ماتيو» بطل سارتر في «دروب الحرية» يحدق في يده تلك التحديقة التي جعلته يحضر سكيناً ويطعن يده الممدودة أمامه، ليتأكد من ان كانت الحياة موجودة وتدب فيها الحياة، وفي المقام نفسه كيف استطاع كامي أن يبرر لنا قتله للعربي على الشاطئ لمجرد أن أشعة الشمس التمعت في نصل السكين.

إنهم إذن الكتّاب السحرّة الذين تسللوا الى أعيننا وقلوبنا حبرياً وجعلونا نهذي معهم ونصدق كل ما يقولون، لا بل نسعى للتنظير في رؤاهم ومعتقداتهم. وإلا كيف نصدق «مسخ» كافكا والرجل الذي انقلب على ظهره كصرصار، أو كيف نصدق كل هذا التيه المنطقي في رواية «القصر» الذي وضعنا فيه المؤلف ومنحنا كل هذا العماء.

وبمناسبة «العماء» كيف نصدق «ساراماغو» وهو يقوم بتوزيع العماء على دولة كاملة إلى الدرجة التي صرنا نشك، نحن القراء، في قوانا البصرية ونحن نقرأ تلك الرواية.

وكيف صدقنا الرقصة التي رقصها زوربا وهو يرى مشروعه الشاطئي يتصدع ويهدم أمام عينيه، لا بل كيف قمنا برقص الرقصة ذاتها وصدقنا أنتوني كوين وهو يرقصها.

إنك أينما وليت وجهك إبداعياً لابد أن تصاب باللمس من هؤلاء السحرة الذين شكلوا التاريخ البشري بأعينهم المرتجفة ونظراتهم الساحقة.

«كيف نصدق (مسخ) كافكا والرجل الذي انقلب على ظهره كصرصار؟ أو كيف نصدق كل هذا التيه المنطقي في رواية (القصر) الذي وضعنا فيه المؤلف ومنحنا كل هذا العماء؟».

«ما من أحد يستطيع أن يخمن تلك الجمرة الحبرية التي تلدغ الروح، على اعتبار أنها هي أحد الكنوز المخبأة التي ظلت تتحرش باليد المبدعة، حتى اصطادتها وقادتها إلى الكتابة مخفورة بالتعبير المعبأ بالدهشة».

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر