أبواب

نزيه أبوعفش صارخاً من عتمة الكابوس

يوسف ضمرة

لماذا تكتب الشعر؟ لكي أخسر. ولماذا تخسر؟ لأنني أكتب الشعر!

ربما تكون هذه من أصعب المعادلات الثقافية التي قرأتها أو توقفت عندها، فقد كتبت من قبل حول خسارات الكاتب عموماً، لكني لم أفهم الأمر كما أوضحه الشاعر السوري نزيه أبوعفش، وذلك في شهادته الإبداعية لمناسبة فوزه بجائزة العويس.

الكاتب عموماً ليس «مرتباً» تجاه العالم والحياة، إنه مختلف، إنه متقلب وراضٍ ورافض ومتمرد.

هل كان الكاتب محكوماً منذ الأزل بهذه الفجيعة؟ إنه مثل طرفة حين حمل رسالة موته ومضى.

شهادة لاذعة ومرة وحميمة وصادقة وصادمة وملتبسة، وما شئت من توصيفات متناقضة، ذلك أن الشاعر، والكاتب عموماً ليس «مرتباً» تجاه العالم والحياة، إنه مختلف، إنه متقلب وراضٍ ورافض ومتمرد، وصانع المعايير التي لا مثيل لها من قبل.

يقول أبوعفش إنه كان ماركسياً على طريقته، ومسيحياً على طريقته، ووجودياً على طريقته، فقد قرأ البيان الشيوعي وسيرة المسيح وسارتر وكامي، ولكنه في داخله لم يكن تابعاً أعمى لما قرأ.

ربما يكون الشاعر نزيه أبوعفش كشف السر الذي بحثت عنه سنوات عدة، فهو لم ينظّر للكتابة وللشعر، لكنه كتب إحساسه ومشاعره نحو الكتابة والحياة والفلسفة والوجود، فالأمل يأس مقلوب.. يا إلهي! لم يخطر لي ذلك من قبل، أعرف أن الأمل نقيض اليأس، لكن التعبير هنا مختلف.

عن ماذا يبحث الشاعر؟ عن مزيد من الخسارات. وحين يراكم تلك الخسارات كلها يكتشف أنه يقترب من الموت، وهو لا يحب أن يموت، على الرغم من هذا الألم كله في الحياة.

«نعم، إنه الشعر. صرخةٌ يائسة من داخل الكابوس.. لن تلبث أن تتبخر في ظلام الكابوس. بوقُ استغاثةٍ في الصحراء الكونية الشاملة، نطلقه عارفين أن لا مُستنجَدَ إلا الغبار ولا مستغاثَ إلا العدم. نطلقه من علياءِ محنتنا كي نستأنس به ونزداد معرفةً بأننا عزّلٌ، وحيدون، عاجزون، وبلا أملٍ ولا مخرج».

بالضرورة سينبري البعض منتقداً ما يمكن تسميته بالسوداوية هنا، لكنه سيكون حُكماً متسرعاً، فالكاتب كلما أوغل في المعرفة، أدرك أن عزلته تتسع وتكبر وتستطيل مخالبها وتُشحذ، فالمعرفة عن طريق الكتابة اقتراب من سر الأسرار، فليس غريباً أن يكون تاريخياً، ثمة تماس ما بين الديانات والشعر.. بين الأسطورة والشعر.. بين السحر والشعر.. بين الموت والشعر. فما من أحد عبر عن الموت مثل الشعراء، وما من شاعر لم يكن الموت هاجساً رئيساً من هواجس قصيدته، وما من شاعر إلا امتطى صهوة مجازه ليصل إلى حيث يحلم النائمون والبشر الكسالى والمتعبون. الشاعر من يتصدى لطعنات الحياة بالمعرفة، بالإغراق في التأمل الممض. والشاعر أول من يدرك أنه أول الخاسرين، لكنه يواصل إطلاق صرخاته من عتمة الكابوس.

هل كان الكاتب محكوماً منذ الأزل بهذه الفجيعة؟ هل كان يدرك ذلك؟ قطعاً لا، فهو مثل طرفة حين حمل رسالة موته ومضى، رفض فتحها على الرغم من أن خاله نبهه إلى ما سوف ينتظره. يرفض لأنه يمضي إلى حتفه فارساً ونبيلاً بكل آلامه وأحلامه.. بأمله ويأسه المقلوب! فلا معنى للشعر إن كانت أهدافه وأسبابه واضحة تماماً. ثمة شيء ما سريّ وغامض يسكن الشاعر ويدفعه في طريق الآلام «الشعر» راضياً ومكرهاً معاً.. «وأيضاً سأتذكّر: سأتذكّر أنني أمضيتُ حياتي خائفاً من أعدائي، وخائفاً من أعدائهم»، أي جحيم هي الكتابة! وأي هزائم وويلات وخسارات يراكم صاحبها ويمضي!

نزيه أبوعفش، أيها الجالس على الخراب كما تقول، طابت أيامك، وأتمناها كثيرة!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر