أبواب

نضارة الأدب

خليل قنديل

بعض الشعراء والكتّاب يحتاج إلى تراكمات سميكة لغوية في نطقه الإبداعي، كي يقوى في النهاية على استلال مقولته الإبداعية التي تتحول لاحقاً إلى ما يُشبه الحكمة؛ فأن يقول أبوفراس الحمداني مثلاً: «وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر» فهذا يعني ببساطة أنه امتلك التراكم في اللغة ومعانيها حتى استطاع استلال المقولة التي تحولت لاحقاً الى ما يُشبه الحكمة.

والأمر ذاته ينطبق على المتنبي أيضاً حين يقول، وهو يصف حالة القلق الوجودي التي عاشها: «على قلق لكأن الريح تحتي».

هذه هي الكتابة حينما تتكثف وتتحد المفردات فيها مع بعضها؛ الكلمات هنا في اتحادها تؤرخ لميلاد جديد، وإلى انبثاق حداثي في المعنى لم تعتده العبارة ذاتها؛ ذلك أن التواصل الكلامي حين يرتطم بصلادة الصخر الكلامي يُحدث ما يشبه الانفجار الذي يولد لغة جديدة، لغة صلبة غير قابلة للكسر!

«اللغة المؤثرة ليست سائلة، بل لغة تظل تجاور الكاتب وتنام وتصحو معه حتى تطلّ على سريته، لتقبض على اللغة الوعرة والصعبة، وربما المستحيلة».

«الأعمال الإبداعية العظيمة على الرغم من مرور أكثر من قرن على ولادتها، مازالت تمتلك تلك الالتماعة الألماسية، أو الذهبية كأنها كُتبت للتو!».

إنّ اللغة المؤثرة ليست لغة سائلة؛ بل هي لغة يمكن القول إنها لغة متخثرة تظل تجاور الكاتب وتنام وتصحو معه حتى تطلّ على سريته، لتقبض على اللغة الوعرة والصعبة وربما المستحيلة، وهي بالطبع لغة ديدنها الاختصار والتكثيف والإضاءة الملتمعة فجأة كالتماعة البرق؛ فحينما يقول النفري: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، فهو بهذا النطق يكسر حدود النطق العادي ليدخل القارئ في وحشية المعادلة الكلامية وتألقها الجميل، خصوصاً في لغة الشعر ليصبح الإشعاع النامي داخل النص الشعري قد أخذ قوة التنمية لإشعاعه، والقدرة على مضاعفة قوة الإضاءة!

والغريب بعد كل هذا العمر للكتابة والشعر لم تستطع الشعوب أن تولد محاذيرها الخاصة بكتابة الشعر، إذ ظل يعاني في مساحاته الجانبية والوسطية من حالة فلتان خاصة تظل تمطر فوق رؤوسنا شعراً رديئاً.

والأمر لا ينطبق على الشعر بشكل خاص، بل على كل الأشكال الأدبية والإبداعية، ويشمل القصة والرواية والأعمال التشكيلية أيضاً، فالأعمال الإبداعية العظيمة على الرغم من مرور أكثر من قرن على ولادتها مازالت تمتلك تلك الالتماعة الألماسية أو الذهبية كأنها كُتبت للتو!

فالعمل الإبداعي السردي الجيد يقبل التحويل إلى المسرح، أو إلى فيلم سينمائي من دون أن تتأثر التماعته المبهرة. فقبل أيام حضرت إليّ حفيدتي وهي تقول لي: هذه الليلة لن نشاهد جان فولجان، وهي تقصد بطل «البؤساء» رائعة فيكتور هيغو، فقلت لها: «لماذا»، فردّت عليّ بإهمال: «انتهى مسلسل البؤساء». وكان عليّ لحظتها العودة إلى الصف الابتدائي لتذكّر ذاك الطفل الذي هو أنا وهو يتأبط كتاب «البؤساء» على سمكه وتعدّد شخوصه!

هذا هو الأدب الذي يحمل على كاهله ثقل شخوصه وتاريخهم الوضاء الذي يمنح الأدب كل هذه النضارة!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر