أبواب

موسم الموت

يوسف ضمرة

ربما يكون فبراير متفرداً في قسوته، بسبب إدراكه العميق أنه يشكل خاتمة موسم الشتاء. وهو بذلك يحاول أن يبدو أكثر شهور الشتاء صخباً وتقلباً، في محاولة منه للنيل من فسحة الأمل التي تهل على أجنحة فراشات مارس.

تنحصر هذه الكتابة في إضاءة بعض جوانب علاقتي ببعض من رحلوا من الكتاب الأردنيين والعرب في هذا الموسم، ما يجعلني أتذكر ترجمة تيسير سبول إحدى رباعيات الخيام، التي يقول فيها:

نخب ذكراهم على أرواحهم منا السلامُ/ الأحباء الأحباءُ قليلا ما أقاموا

دارت الكأس عليهم دورة أو دورتين/ وتهاوت أحلامهم تترى، فمالوا ليناموا

هل حقاً هم الأحباء الأحباءُ الذين قليلاً ما أقاموا؟ أم إننا لا نكتشف هذا الحب إلا في الرحيل؟ هل فكرنا في هؤلاء قبل رحيلهم؟ هل حاولنا أن نتخيل وقع هذا الرحيل علينا قبل وقوعه؟ ألا نعيش الحياة كأن الموت يعني من لا نعرفهم، ولا يعنينا نحن أو أصدقاءنا؟

بمرور الزمن، تصبح لدى كل منا قائمة طويلة من الراحلين، مفتوحة لأسماء جديدة كل يوم. نحن الذين نعيش وقتاً غير قصير قبل أن ندون قائمة الموتى، ونطويها في ذاكراتنا.

بمرور الزمن، تصبح لدى كل منا قائمة طويلة من الراحلين، مفتوحة لأسماء جديدة كل يوم. نحن الذين نعيش وقتاً غير قصير قبل أن ندون قائمة الموتى، ونطويها في ذاكراتنا.

أتذكر عندما انتحر تيسير سبول، كنت جديداً في المشهد الثقافي. لم أكن نشرت سوى بضع قصائد. ولكني قرأت حينها كتابات كثيرة لأصدقائه. كان الأمر كأنه لا يعنيني. لم أكن تورطت تماماً في الكتابة بعد.. كانت الكتابة عالماً سحرياً وغامضاً ومرعباً.

حين رأيت المرحوم خليل السواحري سنة 1971 يأتي لزيارة أخي الشاعر محمد ضمرة، كان كبيراً، رجلاً، وكاتباً. ولم أكن بلغت الـ20 بعد.. أيامها كنت أقرأ، وأكتب بعض القصائد. رأيته مرة يكتب بقلم الحبر السائل، فسحرني القلم والخط الأسود. وظللت زمناً طويلاً أكتب بالحبر السائل بعد ذلك.

بعد ذلك، التقيت عرضاً كلاً من أسامة فوزي يوسف، وأحمد عبدالحق، والمرحوم عدنان علي خالد، الذي ترددتُ على صالونه ـ للحلاقة ـ مرات قليلة، بينما كانت اللقاءات الأكثر تتم في مقهى الكوكب، الذي يشبه مقهى السنترال القديم في وسط عمان.

تشكلت أولى العلاقات بيني وبين أسامة وأحمد عبدالحق وعدنان علي خالد وإبراهيم الخطيب. ليرحل كل من عدنان علي خالد وهو في بداية الأربعينات من عمره، ثم يرحل بعده إلياس جريس، الشاعر الذي كانت لنا معه حكاية طريفة خلال عمله في صحيفة «عمان المساء» الأسبوعية، التي كان لها فضل كبير في تعريف الآخرين بنا.

بدر عبدالحق لم يكن في الزرقاء، وربما غادر الأردن فور تخرجه أو بعد ذلك بقليل، لألتقيه بعد ذلك وهو الرجل الثاني أو الثالث في صحيفة الرأي. ولتبدأ بيني وبينه علاقة ود، بعد أن كانت من قبل إعجاباً بكتاباته.

أربعة كتّاب من الزرقاء وحدها رحلوا، وهم ممن شكلوا في مرحلة معينة أسماء لافتة في عالم الكتابة والأدب. وقد كانت لي مع ثلاثة منهم علاقات مميزة، قبل أن يبدأ كتاب وأدباء وشعراء آخرون، ممن عرفتهم في عمان، الرحيل تباعاً.

وحين رحل بدر عبدالحق، وحكمية جرار في يوم واحد، تذكرت أن مؤنس الرزاز وعبدالرحمن منيف رحلا في الشهر نفسه. وتذكرت أيضاً أن غالب هلسا ورأفت عزام رحلا قبلهما بشهرين، فأدركت أن الشتاء فصل الموت، وأن فبراير (شباط)، هو أطول شهور هذا الفصل والسنة كلها، رغم أنه لا يتعدى 28 يوماً إلا مرة واحدة كل أربع سنوات.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

 

تويتر