أبواب

كيمياء الشعر

خليل قنديل

ظلّ الشعر يمثل الطموح الأسمى في التاريخ الكتابي الإنساني، وظل الشعراء يحلمون بالحصول على تسمية الشاعر التي تسبق الاسم في العادة، كلقب له إيقاعه السحري على كل من يحيط بالشاعر.

وليس غريباً أن تقوم بعض القبائل العربية بـ«تعميد» شاعرها وتنصيبه في وقت شاعراً للقبيلة، كي يتحول لاحقاً ناطقاً رسمياً لهذه القبيلة أو تلك! ولن نبالغ إن قلنا إن بعض الشعراء العرب في تاريخنا قد دفعوا حياتهم من أجل هذا اللقب، خصوصاً أبوالطيب المتنبي، الذي حينما حاول أن يدير ظهره لبعض مقاتليه تم تذكيره ببعض الأبيات الشعرية التي كان يتغنى بها عن نفسه ليعاود بعد ذلك القتال حتى الموت!

نعم، إن الشعر الذي يبدو وكأنه الخروج الإنساني الأول عن سياق الكلام ومحاولة تأثيثه بالرؤى والصور الخارجة عن المألوف كان يبدو وكأنه الصيغة الوحيدة التي تمنح القائل به في حرية مغادرة السياق والعودة إليه دون ضرورة لمنطق الترتيب!

«الشاعر الحقيقي الذي غرز أصابعه في حركة التاريخ وأعادها مدماة إلى قلبه، قد استطاع أن يؤكد موهبته الشعرية، ويكتب قصيدته التي صارت علامة في التاريخ الشعري».


«بعض كُتّابنا من الشباب العرب صار يحصل على لقب شاعر بعد عبوره لأمسيتين شعريتين مع بعض التغطيات الصحافية، وإلى ذلك عليك أن تتحمل تقززه المدمر من العالم».

وهو أيضاً النطق المُعفى من جمرك التراتبية في نطق الكلام، وهو بهذا ما يمنح الشاعر حرية التحليق، واصطياد الرؤى والتصرف بها لإخراجها بشكل جميل وموسيقي! وقد أضفى هذا على شخصية الشاعر حالة من الغرائبية في شخصية الشاعر ذاته، التي لا تخلو من تقلب الطباع والأحوال.

ولا نبالغ إن قلنا أيضاً إن بعض الشعراء قد انتحلوا صفة الغرابة والتطرف المسلكي، كي يحصلوا على هذا اللقب الذي كان يمنحهم امتيازات اجتماعية، لكن الشاعر الحقيقي الذي غرز أصابعه في حركة التاريخ وأعادها مدماة إلى قلبه، قد استطاع أن يؤكد موهبته الشعرية، ويكتب قصيدته التي صارت علامة في التاريخ الشعري.

ومع ذلك، فإن انتحال الشعر والكذب عليه ظلت فكرة قابلة للتصديق ففي مقابل هذا الكم الهائل من الشعراء عربياً كم هو بالفعل عدد الشعراء الذين يستحقون مثل هذا اللقب؟

وعلى العكس من الظروف الوعرة التي كان يعيشها الشاعر العربي حتى يُعمد شاعراً، إذ كانت تؤدي به إلى الصلب أحياناً حتى الموت صرنا نلاحظ أن بعض كتابنا من الشباب العرب صار يحصل على لقب شاعر بعد عبوره لأمسيتين شعريتين مع بعض التغطيات الصحافية وإلى ذلك عليك أن تتحمل تقززه المدمر من العالم، ومن كل ما حوله، ومحاولته الدائمة والمبتذلة في انتقاء الكلمات والنطق بها!

وفي الذاكرة الشخصية العديد من الأسماء التي مارست حمقها التاريخي على الآخرين بسبب هذا اللقب المقترح حتى إن إحدهم وحينما سألته في مطلع ثمانينات القرن المنصرم إن كان قد قرأ رواية «مائة عام من العزلة» إذ كانت آنذاك رائجة قرائياً وهو يقول لي بثقة نادرة: «أنا شاعر يا خليل وأنت تسألني عن كتاب نثري وهذا لا يجوز» وأكمل: «أنا لا اقرأ إلا الشعر!!!»

وذات مرة انفعل أحد الشعراء في وجهي وقال مؤنباً أنت قاص يا خليل ولا يجوز للشاعر أن يناقش قاصاً.

إلى هذا الحد تصرف أحفاد الشاعر العربي بالشعر.

وكان الله بالعون!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر