أبواب

الأصل والإحياء

يوسف ضمرة

كثيراً ما تخرج علينا المحطات الفضائية، ببرامج ترفيه فنية، نستمع فيها إلى شباب جدد يؤدون أغنيات قديمة. بعض هؤلاء يجهد كي يأتي صوته مطابقاً أو قريباً من صوت المغني الأصيل، بل يذهب آخرون إلى تقمص شخصيته في الأداء، بدءاً من الشكل وليس انتهاء بالحركات. وبعض هؤلاء يلفتون الأنظار، وسرعان ما ترتفع أسهمهم شعبياً وجماهيرياً، ويبدأ الناس في انتظار مسيرتهم الفنية التي يتوقعون لها النجاح والتميز.

المقلّد الشاب يظن أن إعادة تأديته أغنيات محمد عبدالوهاب أو عبدالحليم حافظ ستكون كفيلة بتكريسه فناناً جديداً متميزاً.

إذا ما كانت ثمة فائدة لهذه البرامج فهي لا تتعدى اكتشاف بعض الأصوات الجميلة، على أن يتم تدريبها وصقلها لتشكل حالة فنية جديدة مغايرة.

الحلقة المفقودة هنا تتعلق بالطرفين، المقلّد والجمهور معاً، فالمقلد الشاب يظن أن إعادة تأديته أغنيات محمد عبدالوهاب أو عبدالحليم حافظ ستكون كفيلة بتكريسه فناناً جديداً متميزاً، والجمهور الذي كثيراً ما ينبهر بهذا الأداء، يتناسى أو ينسى، أن إعجابه كان بالأغنية التي أداها الشاب الجديد في المقام الأول. صحيح أن بعض الشباب ينجح أكثر من سواه في عملية الإحياء، إلا أنها تظل إعادة إنتاج لعمل إبداعي تم وأنجزه شخص أو أشخاص آخرون. والجمهور الذي ينبهر بهذا الإحياء، وينتظر انطلاقة الشاب الجديد، سرعان ما يكتشف عند أول منعطف، أن هذا الفنان الجديد لم يكن بمستوى الفنان الأصيل، ولم يكن حتى بمستوى نفسه هو حين أدى أغنية قديمة ذائعة الصيت.

هذا الأمر يجعلنا نفكر مرة أخرى وثالثة وعاشرة في العملية الإبداعية، فلا المغني ولا الممثل ولا الكاتب أو الرسام، قادر على أن يكون متميزاً ، أو أن يشكل حالة فنية إبداعية بالسير على خطى الآخرين الذين سبقوه. ولكي تكون مبدعاً فإن أول ما ينبغي لك أن تفكر فيه، هو أن يكون لك صوتك، أو تكون لك بصمتك الخاصة في أي من حقول الفن التي تريد اللعب فيها، فلم تقلد السيدة فيروز مغنية سبقتها، ولم يفعل ذلك عبدالوهاب أو عبدالحليم حافظ أو سيد درويش. كما تمكن العديد من الكتّاب والأدباء من التأثير في المشهد الثقافي بإبداعاتهم الجديدة التي كانت مغايرة لما سبقها، لا مقلدة لها. هكذا خرجت علينا رواية الستينات المصرية المفارقة للرواية المحفوظية، وهكذا تمكنت من شق طريقها ـ وإن بصعوبة في البدايات ـ إلى عقولنا ومشاعرنا وذائقاتنا. والأمر ذاته ينطبق على الرسم والموسيقى والنحت والسينما وبقية الفنون الأخرى. وكم أشفقنا على أصوات جميلة في عالم الغناء، لأنها سرعان ما فقدت جماليتها في خلال إصرارها على تقمص إبداعات فنانين سابقين. وهؤلاء الذين يبهرون المستمعين في البدايات بأدائهم، لا ينتبهون إلى مسألة الحنين التي تثيرها عملية الإحياء عند المستمعين، أكثر من تميز الصوت وجودته، وهو ما يشكل مصيدة لهذه الأصوات التي سرعان ما يتجاهلها المستمع، طالما كان قادراً على الاستماع إلى الصوت الأصيل.

وإذا ما كانت ثمة فائدة لهذه البرامج فهي لا تتعدى اكتشاف بعض الأصوات الجميلة في حد ذاتها، على أن يتم تدريبها وصقلها لتشكل حالة فنية جديدة مغايرة لما سبقها من حالات متميزة. وبمعنى آخر، فإن الوقوع أسرى الماضي فنياً وإبداعياً ـ مع تقدير هذه التجارب الماضية ـ يعني في نهاية المطاف أن يتقبل المرء نفسه صدى لتجربة مميزة، لا صوتاً لتجربة جديدة فيها الكثير من الجرأة والمغامرة. ولننظر إلى تجربة زياد الرحباني الموسيقية مع السيدة فيروز، لكي ندرك ما معنى الصوت والصدى في الفن.

 damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

 

تويتر