أبواب

سر غياب الحضارات!

خليل قنديل

ترى ما الذي يجعل أمة ما تتراجع عن دورها الحضاري، وتقدم اعتذارها للعالم كي تبدأ بعد ذلك بقضم روحها، والعمل على تقويض منجزها الحضاري، والدخول بعد ذلك في «الكومة» الدهرية التي تستمر لقرون طويلة حتى تصل إلى درجة الاختفاء والتبدد!

«نسأل عن الحضارة الفارسية وعن الرومانية واليونانية والمصرية، وعن مخلفات هذه الحضارات التي لو أتيحت لنا العودة إلى منبتها فلن نقبض إلا على هواء التاريخ وصرير ريحه الذي يضرب في جنباتها، وعلى أرواح أثيرية تحوم في جنبات وزوايا المكان».

«في تلك اللحظة التي تبدأ فيها أي حضارة بالتخطيط لمولدها الأرضي، تبدأ الدهماء بصناعة الثقب الذي من الممكن أن يدخل منه كل الخراب إلى سطح السفينة، ليبدأ بتأثيث أس الخراب والدمار».

وعلى الرغم من توافر الشروط الكاملة لاستمرار هذا الفعل التحضري عند بعض الأمم، إلا أن الأمر هنا يبدو غامضاً ومطلسماً، لا بل يبدو في معظم الأحيان صبيانياً!

إننا هنا نسأل عن الحضارة الفارسية وعن الرومانية واليونانية والمصرية، وعن مخلفات هذه الحضارات التي لو أتيحت لنا العودة إلى منبتها فلن نقبض إلا على هواء التاريخ وصرير ريحه الذي يضرب في جنباتها، وعلى أرواح أثيرية تحوم في جنبات وزوايا المكان.

إن استذكار مثقفين لأثينا، على سبيل المثال، واستحضار العقول المُشعة في حواري ومدرجات أثينا يجعلنا نهتف بالقول: يا إلهي أين ذهب أفلاطون وسقراط، وتلك الحوارات الفلسفية المعمقة في المنطق والرياضيات؟

وحين يحط بنا المقام في أرض السواد في العراق؛ سوف نسأل عن تلك العقول النادرة التي صنعت حضارة الرافدين والكتابة المسمارية الأولى، وعن حمورابي الذي كتب التشريعات الأولى للبشرية، وعملت على أساسها شعوب المنطقة، على اعتبار أنها من أهم المرجعيات الأخلاقية للمنطقة!

والغريب أن انقصاف عمر هذه الحضارات كان يتم بشكل تدميري من قبل الدهماء، التي ظلت طوال عمرها التاريخي أداة نقمة وتدمير على كل ما هو حضاري، وذلك يجعلنا نعتقد جازمين بالتفكير في أن الغباء الجمعي والدهماء هم ألدّ أعداء التحضر وإعادة إنتاجه!

وجميعنا يذكر هجمة الدهماء على المتحف العراقي مع دخول أول دبابة أميركية إلى شوارع بغداد، وكذلك هجمة الدهماء على المتحف المصري أثناء ثورة 25 يناير في مصر، ولكي نتأكد من هذه الهجمة الدهمائية علينا تذكّر الهجمة على المنجز الحضاري اليوناني والروماني الذي كانت تعيشه مدينة الإسكندرية من كتب ومؤلفات ومسارح ومناظرات، وكيف تم تدمير معظم هذه المنجزات مع احتلال الإسكندرية!

هذا عداك عن البربرية التي كان يتمتع بها جانكيز خان وجنده الذين ألقوا بكتب بغداد إلى النهر، حتى ليقال إن لون ماء النهر قد تحبر!

إن مثل هذه اللعبة، على ما فيها من قسوة، تحيلنا إلى التفكير في النوازع النائمة عند الإنسان عموماً، والتي تجعله يتخذ موقفاً عدوانياً من منجزه الحضاري، وإلا ما معنى أن تكون دولة بحجم سورية تمتلك كل هذه الأسلحة الكيماوية المدمرة، والافتراض الأقسى من ذلك ماذا لو كشف العالم كله عن مخزوناته الكيماوية؛ بالتأكيد سوف نحصل على إمكانات خارقة قادرة على «جرثمة الكوكب» وإبادة كائناته!

وهكذا فإن الحمق البشري يظل بالمرصاد لأي حالة تحضّر، ولعل هذا بالتأكيد ما يجعلنا نسأل عن سر غياب كل تلك الحضارات! وعن السر الكامن وراء غياب بعض الحضارات.

وهذا ما يجعلنا نؤكد أنه في تلك اللحظة التي تبدأ فيها أي حضارة بالتخطيط لمولدها الأرضي، تبدأ الدهماء بصناعة الثقب الذي من الممكن أن يدخل منه كل الخراب إلى سطح السفينة، ليبدأ بتأثيث أس الخراب والدمار.. ربما.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

 

تويتر