أبواب

وترجّل الفيتوري في الزمن المعاكس

يوسف ضمرة

لم أكن أنوي الكتابة عن رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم، لأنني أدرك أن مئات المقالات ستقال فيه، بالنظر لما شكله من حالة فريدة في الفن العربي، وهو ربما كان من الشعراء والكتاب القلائل الذين التف حول كتاباتهم البسطاء والنخب السياسية والثقافية عربياً. وقد فاق في ذلك ما حققه نجيب محفوظ علامة الرواية العربية، رغم التجاوز الفني الذي شكّلته الرواية العربية في ما بعد.

محمد الفيتوري «السوداني الليبي المصري»، بحسب المولد والنشأة والدراسة والعمل والإبداع، كان رمزاً للإنسان العربي الذي تشغله قضايا الأمة كلها من المحيط إلى الخليج.


دراسته الدينية هي التي وقفت وراء ظهور قصائده الصوفية، التي شكلت ولادة القصيدة الصوفية العربية الحديثة.

أما أن يتبعه مباشرة الشاعر العربي الكبير محمد الفيتوري، فهذا ما يشكل حافزاً قوياً للكتابة.

ليس الأمر مجرد مرثاة لا نجيدها، لكنه استذكار رموز أدبية شكلت ملاذاً ذات يوم للوجدان العربي جمالياً ومعرفياً. فمحمد الفيتوري «السوداني الليبي المصري»، بحسب المولد والنشأة والدراسة والعمل والإبداع، كان رمزاً للإنسان العربي الذي تشغله قضايا الأمة كلها من المحيط إلى الخليج، لذلك لم يستثنِ بقعة عربية في أشعاره، وقد شكل مع الطيب صالح علامتين مؤثرتين في الأدب العربي منذ نهاية الستينات، فقد فاجأ الطيب صالح القراء والمثقفين العرب بروايته المبهرة «موسم الهجرة على الشمال» تماماً كما فعل محمد الفيتوري بديوانه «أغاني إفريقيا»، الذي صدر في المرة الأولى عام 1955، قبل أن يصدر لاحقاً في بيروت. ويلاحظ المتابع أن الدواوين الأربعة الأولى لمحمد الفيتوري تحمل في عناوينها اسم «إفريقيا» على النحو التالي: أغاني إفريقيا، عاشق من إفريقيا، اذكريني يا إفريقيا، أحزان إفريقيا، وهو ما جعل كثيرا من نقاد الأدب يطلقون عليه لقب «شاعر الزنوجة»، تماماً كما هي الحال مع الشاعر السنغالي «ليوبولد سينغور» الرئيس الأسبق في بلده، الذي استقال طوعاً وأمضى بقية حياته مواطناً عادياً. وليس أمراً غريباً أن يلتفت الفيتوري إلى «الزنوجة» لا بوصفها لوناً، وإنما هوية جرت استباحتها على يد القوى الاستعمارية الكبرى: بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال. وقد عاش فظائع الاستعمار بنفسه تماماً مثل سينغور وأغينو أتشيبي وول سونكا الحائز جائزة نوبل، وهو ما يفسر توجه الفيتوري في أشعاره نحو الإفريقي المستعبَد والمستعمَر والمقهور، وما جعله يتمسك بإفريقيته كهوية وطنية في مواجهة القهر الذي شكلته القوى الكبرى عقوداً عدة. وقد لخص ذلك الكاتب البولوني «جوزيف كونراد» في رائعته «قلب الظلام»، التي أتينا عليها ذات مقالة سابقة.

واللافت أيضاً في حياة الفيتوري وفي شعره معاً، أنه يذكرنا بالشيخ سيد درويش، فهو حفظ القرآن في الإسكندرية، قبل أن يتخرج في جامعة الأزهر في القاهرة، ناهيك عن عمله السياسي الرسمي مستشاراً سياسياً وسفيراً ومستشاراً إعلامياً وما إلى ذلك.

وربما تكون نشأته الدينية الأسرية، إضافة إلى دراسته الدينية أيضاً، هي التي وقفت وراء ظهور قصائده الصوفية، التي شكلت ولادة القصيدة الصوفية العربية الحديثة، لتصبح فيما بعد ملمحاً بارزاً من ملامح الشعر العربي الحديث:

في حضرة من أهوى/ عصفت بس الأشواق/ حدقت بلا وجهٍ/ ورقصت بلا ساق/ وزحمت براياتي/ وطبولي الآفاق/ عشقي يفني عشقي/ وفنائي استغراق/ مملوكك لكني/ سلطان العشاق.

رحل الفيتوري في زمن عربي مخالف لحلمه، حلم الوحدة التي تستطيع النهوض بالأمة، لا وحدة العنف والقتل التي يعيشها عالمنا العربي الآن.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

تويتر