أبواب

غراب كلّ منا

يوسف ضمرة

ما مضى لن يعود.. لا عود.. ما فات فات.. كلها ترجمة اللازمة التي ظل يرددها غراب إدغار ألان بو، الشاعر الأميركي والقاص العظيم، الذي لم يعش سوى 40 سنة.

وحتى حين يسأل الشاعر غرابه عن اسمه القديم في العالم الرباني يكرر الإجابة ذاتها.

عند إدغار ألان بو، كان الحدث الظاهر أو المباشر هو فقدان الشاعر حبيبته، وبحثه عن منفذ للقائها، ولو بعد موته، لكن غرابه يصر على ترداد مقولته «لا عود». أما عندنا نحن فثمة الكثير مما نسأل غرباننا عنه، وربما ستكون الإجابة هي ذاتها إجابة غراب إدغار ألان بو.

نحن فقدنا ثقافة الحوار مثلاً، وانتقلنا إلى ثقافة التمترس والكراهية والبغض ورجم الرأي الآخر وجلده أو تعزيره، واكتشفنا أننا لم نكن متفقين على شيء.


ما لم نكن قادرين على إدارة حوار حول أي موضوع خلافي، فإن اتفاقنا على موضوع آخر يصبح أمراً مثار شك.

نحن فقدنا ثقافة الحوار مثلا، وانتقلنا إلى ثقافة التمترس والكراهية والبغض ورجم الرأي الآخر وجلده أو تعزيره. اكتشفنا بعد وقت طويل، وربما حيث «لا عود» أننا لم نكن متفقين حقاً على شيء، لأن من يعرف كيف يتفق مع الآخر على شيء ما، عليه أن يعرف كيف يختلف معه أيضاً على شيء آخر. فالاتفاق المطلق أو الخلاف المطلق ينمان عن عقل ثقافي ناقص. فلا ثقافة من دون حوار، ولا ثقافة من دون اختلاف في الرأي والموقف والمفهوم والفكرة. وما لم نكن قادرين على إدارة حوار حول أي موضوع خلافي فإن اتفاقنا على موضوع آخر يصبح أمراً مثار شك، فربما يكون اتفاقاً تمليه اعتبارات أخرى وقيم أخرى ومفاهيم أخرى. وفي أيامنا هذه أخذت مفاهيم كالطائفية والمذهبية والجغرافيا تلعب دوراً كبيراً في الاتفاق. فلا شيء يجمع أصحاب المليارات والملايين بالفقراء المهمشين سوى الطائفة أو المذهب في غير مكان عربي. هذا العماء المذهبي يشبه غراب إدغار ألان بو الذي يكرر على مسمع الشاعر «لا عود.. أو ما فات فات»، فأنت تبحث عن طريقة ما لتوصيل فكرة مغايرة لكل ما أخذ ينتشر أخيراً، لكن الغراب يصر على لونه ونعيبه ولازمته «لا عود.. ما فات فات». ويبدو لنا أن الثقافة العربية كلها وصلت إلى هذا المأزق، وهو مأزق الشاعر إدغار ألان بو، الذي حاول استرضاء غرابه بشتى السبل، علّ أملاً ما يبدد هذا النعيب والشؤم وفقدان الأمل، فكانت الـ«لا عود» الثابتة.

لكن، هل حقاً ما فات قد فات، وما مضى لن يعود؟ نعم في الظاهر يبدو الأمر كذلك، لكن من قال إن علينا استرجاع الماضي؟ من قال إننا محكومون بمفاهيمه وأفكاره من دون قراءة وإطلالة حديثة بين حين وآخر؟ فالثقافة فعل متجدد ومتحرك وغير ساكن، وقد يحدث أن يقوم البعض بحمل هذا الفعل وجره إلى الماضي البعيد أو القريب، لكن هذا ليس قانوناً ثقافياً أو اجتماعياً بحيث لا ينجو منه أحد.

ليست الثقافة أن نكون قادرين على كتابة الشعر والقصص والروايات، وإنما هي أن نكون قادرين على جعل الثقافة نفسها عاملاً أساسياً وإيجابياً في تطوير المجتمعات. فلا تغيير اجتماعيا ما لم تكن الثقافة قائدة لهذا التغيير. صحيح أن السياسة تلعب دوراً رئيساً في التغيير الاجتماعي، لكن الثقافة هي المحدد لطبيعة هذا التغيير وجوهره وماهيته، وعليه يكون غراب إدغار ألان بو يردد ما يريده كل منا، لا ما يريده الغراب نفسه، فالنعيب هو في دواخلنا كالشؤم وفقدان الأمل، وليس مرتبطاً لا بالغراب ولا بصاحبه الشاعر الكبير.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر