أبواب

حصان طروادة الجديد

يوسف ضمرة

منذ انقسم العالم إلى قطبين مع انتهاء الحرب الكونية الثانية، اشتعلت الحرب الباردة، وقد شملت مناحي الحياة كلها بما فيها الثقافة، فكانت الحرب الباردة الثقافية. وفيها وظف الغرب المنابر الثقافية ووسائل الإعلام، ودعم منابر ثقافية في دول شرق أوروبا ودول العالم الأخرى، لشن حملة ثقافية لا هوادة فيها، أسهمت في نهاية الأمر في سقوط الاتحاد السوفييتي.

في هذه الحرب أنشأت الـ«سي آي إيه» أذرعاً ثقافية لها في العالم كله، من مجلات أدبية وصحف ثقافية ومحطات تلفزة. كما وظفت جوائز عالمية كبرى، وعلى رأسها نوبل، لإحداث التأثير الثقافي المطلوب في دول شرق أوروبا. كان هذا كله مفهوماً، على الرغم من أننا لا نتفهم الدوافع والحالات. وعلى الرغم من أننا لا نقبل أن تكون الثقافة حصان طروادة للدخول إلى المجتمعات من أجل تفكيكها ودفعها نحو اتخاذ خيارات سياسية وأيديولوجية ما.

الثقافة ركن رئيس من أركان الهوية، ولكنها أيضاً ركن رئيس من أركان البناء والهدم وتزوير الوعي أو تصحيحه.

الآن تتحول الثقافة في عالمنا العربي إلى حصان طروادة من نوع آخر.. حصان طروادة الذي مضت على ولادته قرابة 3000 سنة ولم يهرم بعد. فبعد تموضع وسائل الإعلام والمنابر الثقافية في جهة ما ومحور محدد، أصبح الكاتب العربي مخيراً بين أمرين: الكتابة في السياق الذي ترسمه وسائل الإعلام والمنابر الثقافية ذات البعد الواحد، أو الصمت. والنتيجة أن ظهرت أقلام كثيرة كانت مجهولة من قبل، وأصبحت تتردد في غير وسيلة إعلامية، وعلى غير منبر ثقافي، فقط لأنها أقلام جرت تعبئتها بحبر برتقالي أو قرمزي أو أي لون تختاره الثورات الملونة منذ أوكرانيا مروراً بجورجيا وقرغيزيا ولبنان، وليس انتهاء بالثورة التونسية.

ثمة روائيون جدد وشعراء جدد وكتاب أعمدة سياسية جدد يملأون الصحافة الورقية والإلكترونية من دون أن يرف للقائمين على هذه المنابر جفن. وثمة كتاب وأدباء وروائيون وكتاب سياسيون ضاقت بأسمائهم وسائل الإعلام والمنابر الثقافية الأخرى، لا لشيء إلا أن أقلامهم لم تصبح برتقالية أو قرمزية أو خضراء.

وكالعادة، وكما يحدث لنا منذ بداية الحرب الباردة الثقافية، وجدنا أنفسنا بين خيارين لا ثالث لهما، وهو وضع يقل فيه هامش الحرية ويضيق أحياناً إلى أن ينعدم. والأمر يشبه الفضائيات الدينية المنتشرة عبر العالم وهي بالمئات أو الآلاف. وهي فضائيات ثقافية مذهبية لها جمهورها المعد والمهيأ مسبقاً لسماعها ومشاهدتها، وكل ما تقوم به هو ترسيخ المذهبية والطائفية، لأن الطرف الآخر غائب عنها لكي نقول إنها منبر حواري مثلاً.

وفي حالنا لا يقتصر الأمر على رأي أو موقف سياسي، ولكنه امتد ليشمل الأدب والفن، امتد ليطال الاسم نفسه بغض الطرف عن قيمته المعرفية والجمالية. وفي هذه الحال فإن علينا توقع جيل أدبي وفني جديد لم يكن في البال من قبل، جيل يقوم بوضع العربة أمام الحصان في الكتابة والرسم والموسيقى والسينما والأغنية. جيل يكتب ويغني ويرسم كما يراد له أن يفعل، وسيكون حريصاً على تنفيذ هذا المطلب على حساب الجماليات والمستويات الفنية. هذا الجيل سيجعلنا نترحم على أيام الواقعية الاشتراكية التي وصفت بالجمود والتقوقع وسطوة الأيديولوجيا وما إلى ذلك.

نصل إلى القول إن الثقافة ركن رئيس من أركان الهوية، ولكنها أيضاً ركن رئيس من أركان البناء والهدم وتزوير الوعي أو تصحيحه.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر