دوريس ليسينغ تترك إرثاً غاضباً

يوسف ضمرة

هل يكتب الروائي مقاطع من سيرته الذاتية في رواياته؟

عاد هذا السؤال ليُطرح بقوة مع رحيل الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ، الفائزة بآداب نوبل عام 2007.

أشار فلوبير عقب كتابته روايته الرائعة «مدام بوفاري» إلى أن« إيما بوفاري» ليست سوى شخصيته. وهو ما أثار ضجة حينها لأن إيما امرأة من جهة، ولأن يد فلوبير لم تظهر في تلك الرواية مطلقاً. وربما كانت تلك الرواية منطلقاً للحديث عن حيادية الروائي في الرواية وضرورة اختفائه مطلقاً.

لكن دوريس ليسينغ أثارت منذ بدايتها في رواية «العشب يغني» موضوع العلاقة بين السيرة والرواية، بالنظر إلى اتكائها على حياتها الشخصية في إفريقيا في تلك الرواية، وفي ما تلاها من أعمال أخرى مثل «سلسلة أبناء العنف». وقد عكست رواياتها كلها تقريباً أجزاء من شخصيتها ومعاناتها ومعايشتها للتمييز ضد المرأة. وربما ظل هذا الأمر قائماً حتى رحيلها، حيث إنها لم تؤمن يوماً بالمؤسسة الزوجية، وقد أثار تصريحها القائل «إن الرجال يصلحون عشاقاً جيدين لا أزواجاً جيدين» الكثير من اللغط والسجال.

وعلى الرغم من أن دوريس ليسينغ لم تكن مقتنعة بكتابة السيرة الذاتية، إلا أنها أخيراً كتبت جزأين من سيرتها، بعد أن وصفت الحياة في السيرة الذاتية بالجامدة.

وأياً يكن رأي دوريس ليسينغ في السيرة الذاتية، إلا أنه ليس في استطاعتها إنكار هذا الجنس الأدبي السردي، ومدى المتعة والألق فيه. وهو ما يمكن تلمسه في سيرة بابلو نيرودا مثلاً «أشهد أنني قد عشت» أو في «الطريق إلى غريكو» للروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس. ولا ننسى سيراً ذاتية كتبت في ثياب روايات جميلة مثل «الخبز الحافي» لمحمد شكري، والكثير من روايات غالب هلسا، وصنع الله إبراهيم.

لكن الرواية تظل رواية والسيرة الذاتية سيرة ذاتية. أي إن هنالك ما يفرق بين العالمين، على الرغم من التماهي الكبير أحياناً بينهما. ففي السيرة الذاتية ثمة حد للخيال يمكن تلمسه في العديد من الروايات، خصوصاً روايات اللامعقول أو روايات الواقعية السحرية اللاتينية، أو الروايات الحديثة العربية والغربية التي تعتمد أساليب الرواية البوليسية وتقنياتها، والتي شاعت أخيراً في العالم كله.

كما إن الرواية لا تحمل رأي المؤلف أو موقفه من قضية ما، بينما تحرص السيرة الذاتية على توضيح هذا الأمر بشكل لا يقبل اللبس. وفي السيرة سرد زمني أفقي لا يتم التلاعب فيه، حيث يبدأ الكاتب سيرته منذ لحظات الوعي الأولى ويواصل السرد منتقلاً من مرحلة إلى أخرى زمنياً وربما مكانياً ووعياً بالضرورة. بينما الرواية ليست مقيدة بالتتابع الزمني، حيث يقوم الروائي برسم الخط الزمني بالطريقة التي تلائم الموضوع والأفكار والمفاهيم والرؤية، وهو ما يجعل الزمن متبايناً بين رواية وأخرى.

رحلت دوريس ليسينغ وهي في الخامسة والتسعين من عمرها، ولكنها تركت خلفها إرثاً سردياً استفز النقاد والقراء على حد سواء. وإذا كانت ليسينغ تعكس شخصيتها في بعض أعمالها، إلا أن تلك الأعمال تظل سرديات روائية، ربما استفادت المؤلفة فيها من تجربتها الشخصية، خصوصاً في إفريقيا، لكنها لم تكن سيرة ذاتية، ولن تكون. ولكن المؤكد ـ كما يقول النقاد ـ أن في أعمالها صوت غضب أنثوياً صارخاً ضد التمييز، ومدافعاً بشراسة عن حقوق المرأة المضطهدة كما تقول.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر