ابواب

حضارة بأفق أعمى

خليل قنديل

أتساءل في كثير من الأحيان، وبشكل مباغت، عن سبب هذا الانهيار المرعب والمُصمت في أساسيات حضارة كاملة، وأتساءل أيضاً عن السبب العجيب في اختفاء العديد من الرموز الأدبية والفكرية في عالمنا المعاصر، وأشعر بأن الظاهرة قد أخذت بالتورم وأنا أرقب كل هذا القحط في الولادات الإبداعية التي كانت، وما إن تولد حتى تزكم رائحتها أنف العالم، ليصبح الرمز الإبداعي مخلوقاً يستحق الاستقبال العالمي بالفعل.

نعم؛ كان هناك العديد من المبشرين، الذين يجلسون القرفصاء على بوابة أي حضارة، وهم يشيرون إلى هذا وذاك على اعتبار أنهم قامات إبداعية سيكون لها الأثر الكبير في تاريخنا الإبداعي لقرون. فعند بوابة القرنين التاسع عشر والعشرين كان كل هؤلاء السحرة يجلسون القرفصاء، وهم يشيرون إلى علامات ورموز إبداعية في الموسيقى والأدب والنقد، وحتى في الفيزياء والتشكيل والكيمياء.

نعم لقد أشاروا إلى آينشتاين، وإلى برناردشو وماركس وأنجلز وبريخت وتشيكوف وسارتر وكامي ودوستوفسكي، ولقد أكدوا على قامات إبداعية، وما كان على العالم آنذاك إلا أن يقبل هذا الترشيح الملزم، ويبدأ بخلق المناسبات والمناخات الكافية لكي يكون إبداعهم في مأمن.

ونعم أيضاً لأن العالم وقتها يصدق هذه الشيفرة التنبؤية في استقبال المواهب الجديدة. ومن يرقب المفاصل الحضارية التي تنقلت فيها البشرية من وقت إلى آخر بشكل انقلابي يلحظ مثل هذه الشيفرة كانت تتطور في كل عصر؛ كي تدلل تفريخاتها المدهشة في كل مرّة!

والمشكلة كانت تنهض من مهجعها بشراسة موجعة حينما تخلو المرحلة العمرية من أي حقبة قادمة، ذلك أن المعرفة هاهنا كانت تجيء في زحمة القحط المعرفي واستبداد الجهل، فيبدو تفجر الطاقة المعرفية في زمن الفراغ المعرفي وهو يولد الانفجار تلو الانفجار بقرقعة أرضية هائلة!

ونحن حين ندخل في متن تفسير الحالة التي نعيش، سنكتشف وببساطة أننا نستقبل عصرنا القادم دون مبشرين بالرواد القادمين من رحم المستقبل.

ومن يرقب وبتحديق عميق شكل التحضر المقبل، وتضاريس رموزه، سيكتشف أننا نخوض غمار معركة حضارية ذات أفق أعمى، وذات دروب وعرة ومطلسمة ليس من السهل كشف ملابساتها، والمطلوب من المبشرين بالرموز الحضارية أن يكونوا على دراية بمحمولات عصرنا!

ففي النقلة الحضارية المروعة للبشرية، التي اشتملت على المركبات واختراع العجلات والأسلحة والديناميت والقطارات، والأهم من ذلك كله آلة الطباعة كانت البشرية جمعاء تعاني تخمة حضارية على مستوى النص الأسطوري والتاريخي، ولهذا كانت النقلة دسمة، وعلى كل الصعد، إذ استطاع الإنسان في تلك النقلة التاريخية أن يستفيد من مُجمل موروثاته، ويوظفها في صهريج تحضرنا كي يستفيد الجميع، وهذا ما حدث بالفعل.

لكننا في زمن الكمبيوتر والإنترنت فإن ترحيلنا لحضارة مقبلة قائمة أساساً على النجابة وسرعة الإنجاز؛ إننا في زمن «الأتمتة»، حيث لكل شيء طعمه الرقمي الموجع؛ صرنا نعاني ضابية في المشاهدة وعتمة مقترحة، بحيث صارت تصعب المشاهدة، مثلما يصعب أيضاً وجود بعض المبشرين الذين سحقتهم حضارتنا.

وقد صار من الصعب أيضاً أنسنة التحضر والثقافة والتعامل مع معطياتها حد اللمس والمكاشفة ووضوح المشهد، فصرنا نتنشق رائحة يتم في المشاهدة الحقّة، وصار اليقين مجرد احتمال مكهرب يجرنا خلفه، ونحن نحدق في قدح إيقاع مشيته النارية دون أن نقوى على التدخل!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر