أبواب

انتحار الأصدقاء

زياد خدّاش

كان أجمل اللامبالين أخلد نواس على غير عادته متوتراً، يروح ويجيء في البيت دون كلام، انتحر صديقي. قال أخلد وهو يدخن ويحدق في اللاشيء: لا أعرف جمال، لكني صديق بشكل تلقائي، لكل شخص يقدم على انتحار لأسباب وجودية، لا اجتماعية أو شخصية، صديق صديقي المنتحر كان طبيباً ناجحاً جداً، ولا معاناة خاصة أو متطرفة في حياته، لا أبواب مقفلة بشكل كامل وحاسم، قرأت مرة عن شاعر نيوزيلندي مشهور جميل وثري جداً كان أصحابه يحتفلون بعيد ميلاده، وحين انتهت الحفلة وعاد المدعوون الى بيوتهم قبّل الشاعر حبيبته وصعد رقصاً الى غرفته لينام، في الصباح انتشر خبر انتحار الشاعر المشهور الذي كان في غاية السعادة اثناء حفلة عيد ميلاده الليلة الماضية، ما الذي يسحرني في انتحار السعداء؟ أهو تلك الشجاعة الغامضة في إلغاء الجسد السعيد، منبع الأشواق والذكريات والرغبات؟ أو القدرة الغريبة الفائقة على تخيل ما لا ُيتخيل مما يقع ويوجد وراء الحياة، هذه الغلالة الشفافة التي يركلها المتنحر السعيد بقدمه ليدخل بعدها في جمال الغياب المرعب. يوما ما اقترب مني صديق فنان وهمس في أذني ونحن نمشي قي حي الطيرة برام الله: صدقني إنها ليست فكرة سيئة بالضرورة! صعقت من كلام الصديق الذي لم يفعلها حتى الآن، لكني كل صباح تقريباً أتصل به متحججاً  بحاجتي لغرض ما لأطمئن على عدم تنفيذه الفكرة غير (السيئة). ما الذي يحدث لأصدقائي وأصدقاء أصدقائي؟

ما الذي يحدث للموت ليصبح نافذة إغواء لذيذة يتداقع باتجاهها للقفز والتلاشي؟ أتذكر الآن صديقيّ الفنانين الجميلين في رام الله محسن وفرانسوا، اللذين قفزا بإصرار بهيج من النافذة واختفيا فجأة عنا في عتمة السر، حزيناً أتذكرهما الآن ناقماً عليهما ومشتاقاً ومتسائلاً بكل مرارة العالم: أية مدن غير مفهومة وغير قابلة للتحديد وغريبة الرائحة نادتهما ليتركانا وحيدين ومحتارين في مدننا المحددة المفهومة؟

في داخل النقمة ثمة اعتراف داخلي دافئ بشجاعتهما وقوة حجتهما واحترام غامض لخيارهما المجنون، النقمة مع الإعجاب الغامض تلك هي مشاعري تجاه كل منتحر يذهب سعيداً الى الغياب الكبير، الشاعر الايطالي تشازاري بافيز، الذي انتحر عام 1950 ترك خلفه نصا يجسد تلك الحسرة اللذيذة والبهجة المؤلمة وذلك الحنين الدامع الراقص الذي يتركه المنتحر السعيد في غرف المدن المفهومة وهو يقفز لمدينته غير المفهومة:

«سيجيء الموت وستكون له عيناكِ

هذا الموت الذي يرافقنا

من الصباح إلى المساء،

أرقاً، وأصم،

كحسرة عتيقة

أو رذيلة بلا جدوى

ستكون عيناك حينئذ

كلمة قيلت سدى،

صرخة مكتومة، صمتاً ستكونان،

مثلما تتراءيان لكِ كل صباح

حين تنحنين على ذاتكِ في المرآة...».

صرت مجنوناً بالفعل أتصل كل صباح بأصدقائي واحداًَ واحداً، لأطمئن على وجودهم على قيد الحياة. يستغرب أصحابي من اتصالاتي المتكررة ذات الحجج الضعيفة، وهم لا يعرفون أني بذلك أنام جيداً وأحبهم أكثر.

zkhadash@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر