أبواب
مات عبدالستار الناصر
حين جاءني القاص والروائي عبدالستار الناصر إلى القسم الثقافي في صحيفة الدستور بعمّان، كان منهكاً وهو يقول لي إنه سيستقر في كندا، ملمحاً إلى أن الحكومة الكندية وافقت على منحه الهجرة هو وزوجته الكاتبة هديّة حسين. يومها فكرت بسرعة في أنني لن أرى هذا الرجل مرة أخرى، وأن الاغتراب القسري الذي يعيشه سوف يحرمنا التواصل معه، وقد كان له ذلك، خصوصاً أنه وقتها كان يتعافى من بعض الجلطات التي أفقدته النطق!
وبعد أن ودعته لا أدري لماذا عدت إلى تذكر كتاباته القصصية المميزة في مجلات سورية كانت رائجة في سبعينات القرن المنصرم، مثل الموقف الأدبي ومجلة المعرفة، وتلك القصص التي كانت توطد علاقاتنا به. مثلما تذكرت لقائي الأول به في بغداد عام 1989، حيث شاهدته لأول مرة بكامل أناقته وصعلكته مع بقية الأصدقاء.
وقد كان انطباعي الأول عنه انه شخصية استفزازية لكنها لا تخلو من ثيمة التواضع العميق الذي يدلل على شخصية مثقفة وواعية. وقد كان يبدو لي أنه من الشخصيات المواظبة المنكبة على تجربتها الإبداعية. وفي حواراتي المبكرة معه في بغداد كنت أكتشف أنه معبأ بقراءات أدبية قادرة على أن تحمي عقله من أي ختل،
وقد تجاوزت ليلتها الهمس الشبابي لبعض المثقفين والكتاب العراقيين وقتها على اعتبار أن عبدالستار من الكتاب المرتبطين بنظام صدام حسين، وقد أثبتت الأيام لاحقاً عكس ذلك، فقد تعرض عبدالستار للاعتقال والتعذيب، وقد شرح تلك التجربة في بعض رواياته، لكن هذا لا يمنع من الاشارة إلى أن عبدالستار الناصر مرّ بلحظات دلال في علاقته مع النظام البعثي، ولا غرابة في ذلك، فمعظم الكتاب العراقيين قد نالهم مثل هذا الدلال.
وفي وقت لاحق عاد عبدالستار وبسبب الظروف التي مرّ بها العراق اختار أن يقيم في عمّان، ولابد من الإشارة هنا إلى أننا وفي جلسات حميمية مع عبدالستار كان يعلن عن علاقته التي لا تخلو من محبة عمان كمكان، وقد ترجم ذلك الإحساس بالكتابة عن المكان العماني قصصياً، كما أنه قام وبما يشبه النية المتعمدة بالكتابة عن معظم التجارب الابداعية الأردنية، خصوصاً في مجال القصة القصيرة. وأعتقد انه جمع كل هذه المقالات النقدية في كتاب.
وقد كنت ألاحظ وانا أتابع ما يكتبه أنه يتحلى بجرأة عجيبة في الكتابة الإبداعية، فقد كان قلمه سلساً ولا تصعب عليه كتابة، وربما تكون هذه الجرأة تشبه أيضاً جرأته في اقتحام الحياة ومعايشة تبدلاتها القاسية. ولعل موته المباغت هذا سيجعلنا جميعاً نعود إلى مخطوطاته وإلى كتبه كي نلمس حبر كتابته الوضاء.
عبدالستار الناصر لك الرحمة في موتك النائي هذا.
ولنا كل هذا الجمر الذي نقبض عليه بحجة البقاء على قيد الحياة.
khaleilq@yahoo.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .