الأسود‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بكِ ‭ (‬1‭)‬

محمد المرزوقي

في‭ ‬الفنّ‭.. ‬يكمن‭ ‬الحدّ‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬واللاإبداع‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬الدهشة‭. ‬فالأديب‭ ‬المبدع،‭ ‬والشاعر‭ ‬المبدع،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬يدهشك‭ ‬مرةً‭ ‬واحدة‭ ‬برواية،‭ ‬أو‭ ‬بقصيدة،‭ ‬ثم‭ ‬تعتاد‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬إبداعه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬إدهاشك‭ ‬كل‭ ‬مرّة‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭. ‬إنّه‭ ‬كمن‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬كأسٍ‭ ‬مملوءة‭ ‬بالماء‭ ‬قطرة‭ ‬واحدة،‭ ‬مرةً‭ ‬تلو‭ ‬مرة،‭ ‬قطرة‭ ‬صغيرة‭ ‬لكنها‭ ‬القطرة‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬بها‭ ‬كأسه‭ ‬إبداعًا‭.‬
إنّها‭ ‬ذلك‭ ‬النّوع‭ ‬من‭ ‬الدّهشة‭ ‬التي‭ ‬تصيب‭ ‬النّاس‭ ‬حين‭ ‬يأتون‭ ‬لسماع‭ ‬قصائد‭ ‬الشاعر‭ ‬الشعبي‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭ ‬ـ‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التّمثيل‭-  ‬وقد‭ ‬تهيّأوا‭ ‬لسماع‭ ‬قصائد‭ ‬بذيئة‭ ‬كما‭ ‬عوّدهم،‭ ‬ثم‭ ‬يفاجئهم‭ ‬بقصائد‭ ‬عن‭ ‬الحبّ،‭ ‬والجمال،‭ ‬والخير،‭ ‬لا‭ ‬ابتذال‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬إسفاف،‭  ‬فيقولون‭ ‬له‭ ‬‮«‬‭ ‬لم‭ ‬نتوقع‭ ‬منك‭ ‬ذلك‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الدهشة‭ ‬التي‭ ‬تضخّ‭ ‬الدماء‭ ‬ـ‭ ‬أو‭ ‬الحبر‭- ‬في‭ ‬قلم‭ ‬المبدع،‭ ‬دهشة‭ ‬تدفع‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم،‭ ‬الجالس‭ ‬في‭ ‬المثال‭ ‬أعلاه،‭ ‬لأن‭ ‬يردّ‭ ‬على‭ ‬جمهوره‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬ولا‭ ‬أنا‭ ‬توقعت‭ ‬ذلك»‮‬‭!   ‬
للدهشة‭ ‬بالنّسبة‭ ‬للفنّان‭ ‬هدفان‭ ‬مزدوجان،‭ ‬أوّلهم‭: ‬عدم‭ ‬تعوّد‭ ‬الجمهور‭ ‬عليه،‭ ‬وثانيهما‭: ‬عدم‭ ‬تعوّده‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬فيصاب‭ ‬بالعقم‭. ‬وتعوّد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬يفضي‭ ‬بالضّرورة‭ ‬إلى‭ ‬تعوده‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬فالتعوّد‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬غول‭ ‬يبتلع‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭ ‬فلا‭ ‬نعود‭ ‬نراها،‭ ‬ولا‭ ‬تعود‭ ‬تستوقفنا‭ ‬التّفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تستوقفنا‭ ‬في‭ ‬المرّة‭ ‬الأولى‭. ‬
أمام‭ ‬معضلة‭ ‬التعوّد‭ ‬هذه‭ ‬لا‭ ‬يصبح‭ ‬أمام‭ ‬الأديب‭ ‬سوى‭ ‬ثلاثة‭ ‬خيارات‭: ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬سيفه‭ ‬إلى‭ ‬غمده،‭ ‬وقلمه‭ ‬إلى‭ ‬غطائه،‭ ‬ويصمت،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الكاتب‭ ‬الأميركي‭ ‬تنيسي‭ ‬ويليامز،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬ينتحر‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬أرمان‭ ‬بارتيه‭ ‬عندما‭ ‬ابتلع‭ ‬المفتاح‭ ‬الحديدي‭ ‬للصندوق‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬فيه‭ ‬كتاباته،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬إرنست‭ ‬همنغواي‭ ‬عندما‭ ‬أطلق‭ ‬رصاصة‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬منهيًا‭ ‬بذلك‭ ‬حياةً‭ ‬حافلة‭ ‬بالإبداع،‭ ‬أما‭ ‬الخيار‭ ‬الثالث،‭ ‬والأكثر‭ ‬صعوبة،‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬يكسر‭ ‬الإطار‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬حبسه‭ ‬بداخله،‭ ‬ويحرّر‭ ‬قلمه‭! ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الأديب‭ ‬العربي‭ ‬حالة‭ ‬خاصة‭ ‬واستثنائية،‭ ‬ويجوز‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لغيره‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬العالم،‭ ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فنحن‭ ‬مجتمعات‭ ‬الخصوصيات،‭ ‬الثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬والأدبية،‭ ‬فالأديب‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يصاب‭ ‬بالشيخوخة‭ ‬الفكرية،‭ ‬ليس‭ ‬لأنها‭ ‬تخطئه،‭ ‬بل‭ ‬لأنّه‭ ‬يتحايل‭ ‬عليها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬الإعلامي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬توقيع‭ ‬الكتب‭ ‬مثلاً،‭ ‬لإيهام‭ ‬النّاس‭ ‬بأنّه‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬العطاء،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمظهر‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬جوهره؛‭ ‬فصناعة‭ ‬الكتب‭ ‬أصبحت‭ ‬فنًا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬وأصبح‭ ‬لدينا‭ ‬كتب‭ ‬وروايات‭ ‬أنيقة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬المطبعة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الكوافير،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تسويق‭ ‬أعماله‭ ‬باستخدام‭ ‬اسمه‭ ‬لا‭ ‬قلمه‭! ‬
ورواية‭ ‬الكاتبة‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬الأسود‭ ‬يليق‭ ‬بكِ‮»‬‭ ‬أفضل‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬نسخة‭ ‬مكررة‭ ‬من‭ ‬رواياتها‭ ‬الثلاث‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬اسمها‭ ‬وصنعت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬قالبًا‭ ‬جليديًا‭ ‬عجزت‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح‭-  ‬أحلام‭ ‬عن‭ ‬كسره‭. ‬
فالرواية‭ ‬بطبعتها‭ ‬الفاخرة،‭ ‬وما‭ ‬صاحبها‭ ‬من‭ ‬بهرجة‭ ‬إعلامية،‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬حقيبة‭ ‬يد‭ ‬أو‭ ‬محفظة‭ ‬من‭ ‬‮«‬إيف‭ ‬سان‭ ‬لوران‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬تشتريها،‭ ‬بمبلغٍ‭ ‬ليس‭ ‬بالبسيط،‭ ‬وتعود‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬حتى‭ ‬تكتشف‭ ‬أن‭ ‬البضاعة‭ ‬التي‭ ‬رأيتها‭ ‬على‭ ‬رف‭ ‬المكتبة‭ ‬أو‭ ‬في‭ )‬الفاترينة‭ ( ‬الزجاجية،‭ ‬عادية،‭ ‬وأنك‭ ‬لم‭ ‬تشتر‭ ‬محفظة‭ ‬أو‭ ‬رواية،‭ ‬بل‭ ‬ماركة‭!‬

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

تويتر