أبواب

«نوستالجيا»

محمد المرزوقي

أعتقد أن القضية في النهاية هي قضية حب؛ إذ كلما ازددت حبًا لذكرى ما، ازدادت سطوة تلك الذكرى عليك. (فلاديمير نابوكوف)

كثيرةٌ هي الأشياء التي لا نجد لها تفسيرًا في حياتنا، ولعلّ ذلك راجعٌ إلى سذاجة بعضها، وسذاجتنا في التعرّف إلى البعض الآخر. أحيانًا يراودني شعورٌ غامض بأنّني لا أنتمي إلى هذه اللحظة، إلى هذا اليوم، أو إلى هذا العصر. أشعر في قرارة نفسي أنني غريبٌ عن هذا العالم.. وأسمع رجع الصدى يأتيني من العتمة والعدم «مكانك ليس هنا»! ولو كان خلفي بابٌ سحريّ، أصرخ في وجهه «إفتح يا سمسم» فتنفتح لي مغارة الماضي، لتواريت خلفه إلى حقبة الثمانينات أو السبعينات!

إنّها الـ«نوستالجيا»، أو بلغة أبسط «الحنين» إلى شيءٍ غامض: وجهٌ من الماضي تراكم عليه الغبار، صورةٌ بالأبيض والأسود كستها الطّحالب والأعشاب، وذكرى حلوة من أيّام الزمن الجميل، أيّام الطّيبين الذين راحوا وبقيت رائحتهم!

وقد أخطأ بعض المثقفين عندما ظنوا أن الـ«نوستالجيا» رجعية ورفض لسنة التغيير، والحقيقةُ خلاف ذلك تمامًا؛ فالـ«نوستالجيا» شعورٌ نبيل، فهذا الحنين إلى الماضي ليس إلا وفاءً وإمتنانًا له.

إنّه ذلك النّوع من الحنين الذي أصاب الشاعر محمود درويش فكتب أجمل أعماله «أحنّ إلى خبز أمي». وهو ذلك النّوع من الحنين إلى الأشياء الصغيرة التي كانت تدخل الفرح والرضا إلى قلوبنا.

صوت «الصرناخ»، حينما نضع رؤوسنا على الوسادة ليلاً فيهدهدنا بأغانيه البدائية.

جوال «الليلام» وهو ينادي على بضاعته ويغري نساء الفريج بالشراء.

اللاقط الهوائي أو «الأريل»، ونحن نصوبه - يدويًا - نحو التردّد الملائم لإزالة التشويش عن بضع قنوات أرضية.

رائحة البخور المتصاعد من غرف أمهاتنا في يوم الجمعة.

كبرنا، وكبرت معنا الاختراعات، وقضت على أشيائنا الصغيرة، فغدت أيامنا كئيبة رتيبة مملّة.

فبعد أن كنا نراسل بعضنا بطرق مبتكرة وعفوية وإنسانيّة، كأن نكتب على البخار المتكاثف فوق زجاج السيارات، على الطاولات الخشبية في الفصول التي نتكدس فيها، على حائط منزل الجيران، وعلى الجبس الذي يلف ذراع صديق سقط وهو يحاول تسلّق شجرة «اللوز»، بتنا اليوم نتراسل عبر «واتس آب» و«بلاك بيري» كأننا «روبوتات»!

وبعد أن كانت أجمل هدية نقدمها إلى من نحب أغنية في برنامج «ما يطلبه المشاهدون»، صارت الهدية اليوم تكتسب قيمتها المعنوية من قيمتها المادية و«ماركتها». وبعد أن كانت القضية الفلسطينية أم القضايا، انتقلت إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة من اهتماماتنا، مثلها مثل أي أغنية مبتذلة تروج فترة ثم تأتي أغنية جديدة لتطغى عليها. فهذا الحنين إلى الماضي أو الـ«نوستالجيا» ليس سوى صرخة احتجاج على الإفلاس الروحي الذي يتسم به هذا العصر الملوّث بآلاف المعلومات والاختراعات التي لا نحتاجها، فبين الحين والآخر تتسلل إلى الذاكرة - بشكلٍ مباغت - ذكرى أشيائنا الصغيرة، فتحملنا إلى أماكن بعيدة، وتعيدنا إلى أيامٍ حسبنا أنّنا نسيناها. إنّ الـ«نوستالجيا» تعطيك الشعور نفسه الذي يحسّه العاشق وهو يدندن أغنية طالما سمعها مع حبيته.. يستعيد بها لدقائق مناخ الحبّ الذي كان، لكنّه لا يستعيد بها.. الحبيبة!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

 

تويتر